بقدوم وحلول أواخر شهر سبتمبر المجيد وذكرى حدثه الكبير الذي استحال إلى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر, بقدوم هذه الأيام العظيمة تنتاب المرء جملة من الأحاسيس والمشاعر الوطنية الجياشة, ويبرز أمام المخيلة شريط طويل من الأحداث الجسام,والمواقف المثيرة لمعاني التضحية والإيثار للشباب والشيوخ وهم يتسابقون إلى ميادين المعركة للدفاع عن الثورة والجمهورية. ففي مثل هذه الأيام شهد الوطن أرضاً وإنساناً نهاية مرحلة من مراحل الظلم والظلام, وإسدال الستار لفصل من حياة قاتمة السواد , أقل مايمكن أن يقال عن تلك المرحلة ومايمكن لواصف أن يصفها به وتنطبق عليها أوضاع الناس آنذاك وعلى أحوالهم المعيشية السائدة ماقاله ونضمه من أبيات شعرية صادقة المعاني والصور البليغة الواضحة الشهيد: محمد محمود الزبيري ,حيث قال: ما لليمانيين في نظراتهم .. بؤس وفي كلماتهم آلام جهل وأمراض وظلم فادح ومخافة ومجاعة وإمام والناس بين مكبل في رجله قيد وفي فمه البليغ لجام أو خائف لم يدري ماينتابه منهم أسجن الدهر أم إعدام؟ فالاجتماع جريمة أزلية والعلم إثم والكلام حرام أجل أيها الإخوة والاخوات.. لقد كان يوم السادس والعشرين من سبتمبر يوماً فاصلاً مهيباً, كان نهاية مرحلة حالكة للسواد ,وبداية مرحلة جديدة.. بل قل إنه ميلاد يوم جديد لحياة الأرض والإنسان, فقد تحررت الأرض ,كما تحرر الإنسان ,حيث كان الطغاة لايتركون لأصحاب الأرض من المزارعين سوى التبن والعلف أما الثمار والغلال فكانت تذهب لخزائن الحكام وجنودهم. فلم يكن يوم السادس والعشرين من سبتمبر يوم ميلاد شعب, أوشك على الانقراض والدمار, وإنما كان يوم ميلاد كل ما تحتويه هذه الأرض من المخلوقات والنبات والحجر؟ لقد أوغل الحكام الأئمة في طغيانهم وتمادوا في جبروتهم, حين أحالوا البلاد إلى سجن كبير موحش رهيب, فأحكموا إغلاق كل نافذة من نوافذ العلم والمعرفة وأشاعوا بين أوساط الشعب خرافة استخدامهم للجن والاستعانة بهم على كل من يتطاول عليهم أو يحاول الخروج عن طاعتهم. إن من لم يعش أو يعاصر تلك الأيام والعهود ولو جانباً من عهد بيت (حميد الدين) المقيت يصعب عليه قبول وتصديق أي كلام عما كان يجري على رقاب هذا الشعب من دمار وويلات.. فلقد كان الأئمة يصرون أيما إصرار على إبقاء هذا الشعب غارقاً بجهالته وتخلفه وفقره ,فالجهل في نظرهم خير وسيلة وأنجع تخدير لمعرفتهم في أن المعرفة والعلوم الحديثة تفتق أذهان الشعوب على الحياة العصرية, وفي هذا نهاية حكم الطغاة والمستبدين, وكانوا أشد مايكونون حرصاً على إغلاق كل نوافذ العلم والمعرفة, فعلى سبيل المثال لا الحصر , هاكم هذه الواقعة التي حدثت لي شخصياً قبل حوالي خمسين عاماً عقب عودتي ذات يوم من مدينة (عدن), فقد جلبت معي جهازاً للاستماع لأخبار الدنيا والدين (راديو)وبينما أنا ببيتي انصت لبعض الأخبار , إذ دخل علي أحد الجيران من أهل القرية ينصحني بخفض صوت المذياع خشية أن لايصادر مني ؟ والسبب أن (عامل المنطقة) أي حاكم الحجرية آنذاك كان قد قام بمصادرة عدد من أجهزة الراديو على أصحاب المحلات التجارية والمطاعم عطفاً على أوامر وتوجيهات أمير لواء تعز بحجة أن تلك الأجهزة كانت سبباً في عدم هطول الأمطار, في ذلك الموسم. وهناك واقعة أخرى وامر آخر بهذا الصدد وهو (تعميم القطران) على مناطق البلاد, فقد اجتمع الإمام يحيى ذات يوم بعدد من وزرائه المنافقين فأخذوا يتندرون بحالة الجهل السائد, فانبرى أحدهم بتقديم اقتراح للإمام كقياس لمستوى جهل الناس ووعيهم وكان فحوى هذا الاقتراح أن يعلن في كافة الأسواق بالقرى والنواحي والمدن والمناطق المختلفة في أن شيخ الجن الأحمر قد تمكن من الهرب من سجن الإمام, واحترازاً وحرصاً عل سلامة رعايا الإمام من أي شر أو مكروه قد يصيبهم فعلى كل رعوي أو خلافه من الناس عامة أن يضع على جبهته بصمة قطران؟ لتقيه وتصونه من شرور هذا الجني الخطير , وبالفعل بعد قراءة ذلك الإعلان الهمجي الساخر بأبناء الشعب أقبل العديد من المغفلين والجهلة بوضع القطران على جباههم. ومن المؤسف أننا اليوم وفي هذا العصر وبعد أن استطاع الإنسان ارتياد العديد من الكواكب وحقق العديد من الإنجازات المذهلة في المجالات التقنية والطبية والهندسية الوراثية والتحكم بالجينات , وخلاف ذلك من المؤسف أن نرى ونشاهد من لايزال يعتقد بتلك الخرافات , بينما كان ينبغي أن تزول وتنتهي مثل تلك المعتقدات من أذهان عامة الناس خاصة في أعقاب حادثة مستشفى العلفي بالحديدة بإقدام أبطال تلك الحادثة وهم: اللقية والعلفي والهندوانة عام 1960م عندما قاموا بذلك العمل البطولي الجبار ومزقوا أسطورة الجن والعفاريت التي كان يدعيها ويوصي زبانيته بنشرها بين أوساط الشعب الإمام أحمد يحيى حميد الدين. والمتتبع من أهل علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس سيجد أن حادثة الحديدة تلك قد أحدثت هزة عنيفة في الذهنية اليمنية العامة وحررت من أذهانهم خرافة ذلك الوهم الذي بقي مستحكما لعقلية العديد من أبناء الشعب,حيث كان الكثير من الناس يتصور بالفعل أن الإمام لديه قدرات خفية مدعومة من الجن وتتصدى لمنع الرصاص من اختراق جسده, علاوة إلى ما ينقله الجن له من أخبار وتقارير عن المتأمرين على حياته وحكمه , وقد ساعد المروجون لهذه الخرافة من زبانيته أن شخصية الطاغية أحمد قد كان عليها شكل من أشكال الشذوذ الخلقي فجثته من الفخامة بحيث تشبه جثة (الفيل) وعيناه واسعتان أشبه ماتكون أقرب إلى عيني (الجمل) إلى جانب الجحوظ, أما رأسه فإنه قد كان لايقدر على حمله إلا بصعوبة. كل تلك الملامح قد ساعدت على تعزيز مايروج له جواسيسه من الإشاعات, وانطلاقاً من نهاية ذلك الليل المظلم ليل الإمامة وعهودها المدمرة وفي أول يوم لقيام الثورة انبرى شاعر الثورة الأستاذ عبدالله البردوني مستبشراً خيراً وطرباً وزهواً منشداً هذه القصيدة العصماء. أفقنا على فجر يوم صبي فياضحوات المنى اطربي أتدرين ياشمس ماذا جرى؟ سلبنا الدجى فجرنا المختبي وكان النعاس على مقلتيك يوشوش كالطائر الأزغب اتدرين أنا سبقنا الربيع نبشر بالموسم الطيب وسرنا حشوداً تطير الدروب بأفواج ميلادنا الأنجب وشعباً يدوي : هي المعجزات مهودي وسيف المثنى أبي غربت زماناً غروب النهار وعدت يقود الضحى موكبي فولى زمان كعرض البغي وأشرق عهد كقلب النبي.