هذه الشجرة التي تتجذر في مقبرة “الشيخ صديق” منذ سنوات هي الآن أشبه بفنتازيا أسطورية تتخذ شكل الجدل السفسطائي بين مصدق أن الشجرة تبكي فعلاً وبين مكذب معتبراً أن مثل هذه القصص مجرد أضاليل يخترعها البعض لتجهيل الناس والزج بهم في مجاهيل الخرافات والجدل والمضيعة، قيل إن الشجرة تفرز مادة سائلة أشبه بالغراء الأبيض.. يعتقد المكذبون لخرافة البكاء أن النمل الأسود أو ما تسمى بحشرة “الأرضة” المنتشرة في الحديدة من أكلة الأخشاب أن هذه الحشرة قد اخترقت كتلة جسم الشجرة ونخرتها ولرطوبتها وعمق جذورها في الأرض.. أخذت تفرز هذه المادة السائلة، وذلك شيء طبيعي.. أما المصدقون فإنهم يذهبون مع أسطورة البكاء إلى هذا فالشجرة أضحت مزاراً للناس صباحاً ومساءً في الحديدة. من يعود بذاكرته للخلف على عهد الإمام يحيى بن حميد الدين قيل جمع بعضاً من أبرز المطالبين بالإصلاح، وقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا لا نريد أكثر من مدارس وبعض طرق في المدن الكبيرة وكهرباء ومستشفيات للتطبيب، وأضافوا: إنها سمة العصر يامولانا ولا نطلب أكثر من هذه المطالب الهينة في ظل تفتح الشعب ووعيه بهذه الضروريات، فقال لهم سأريكم وعي الشعب الذي تقولون عليه أيها العصريون، أشاع الإمام يحيى أن الجن في هذه الأيام يسرحون ويمرحون في اليمن، ولاتقاء ضررهم على الناس أن يتحصنوا بالقطران في وجوههم.. فاستجاب الكثير وخططوا وجوههم، وكان نصيب الناس في الحديدة أكثر من أي منطقة أخرى. في إشاعة أخرى أثير بشكل واسع في العام 1963م بعد ثورة سبتمبر في نفس المدينة، الحديدة التي كانت يومها من المراكز الهامة لاستقبال المواطنين المتطوعين للالتحاق بالحرس الوطني وتدريبهم وتجهيزهم لصد غارات الملكيين في حرض وميدي وبعض المناطق والقرى التابعة في أولى معارك الجمهورية مع المرتزقة الملكيين “أن شجرة في نفس المقبرة الآنفة مكتوب على بعض أوراقها الإمام محمد البدر الناصر لدين الله نصره وأيده الله، وانطلت الإشاعة على بعض الأميين والجاهلين بتخلف الإمامة وفسادها. وتتوالى مثل هذه الروايات والإشاعات الخرافية كلما استبشرت البلاد بأمر جلل ينقل الناس من التخلف إلى العصر ومزاياه المتقدمة في العلم والتنمية والحياة الكريمة، وبالذات في مدينة الحديدة وتهامة لقياس نبض المجتمع ربما لعلم فسدة الأفكار وخبثهم وذكائهم في الآن نفسه بما يعانيه سكان الحديدة وتهامة على وجه الخصوص من الجهل والتهميش المتعمد.. باعتبار الحديدة وتوابعها على شواطئ البحر الأحمر مورداً مالياً ضخماً لجيوب الفسدة المتنفذين في كل زمان، ومكان وقد أضاف الفساد القديم والحديث نهب الأراضي والمزارع بالحيل وتهديد السلاح ووضع الخطوط الحمراء على المعرفة والثقافة باعتبارهما الفاصل بين الاستسلام للنهب وترك الأمور للأقدار والأخرة وبين الوقوف ضد الظلم ورفضه ومقاومته في الدنيا، وابتعاداً عن التعميم المبالغ فيه للتهويل فقط.. فقد عمد المتنفذون والناهبون على تكريس مجموعة من أبناء المنطقة نفسها لمحاربة أي بوادر للتوعية أو الثقافة وجعلهم جاهزين لاستقبال أي محافظ جديد كنخبة ممثلة ووجهاء للمنطقة.. فكل شيء على ما يرام، وإنجازات أي محافظ لا تمارى مقابل الفتات فنشاط فرع اتحاد الأدباء والكتاب فيها صفر والمركز الثقافي التابع لوزارة الثقافة كان قد تحول إلى حمام لقضاء الحاجة للنائمين في الأرصفة، وكل محافظ ينزل بها يعرف ماهو المطلوب والخط الأحمر في مدينة الجمارك والأراضي السائبة والشواطئ الممتدة، إن حكاية الشجرة التي تبكي اليوم على حد تعبير إياهم هي غيض من فيض من تلك التي يحاول هؤلاء وحلفاؤهم بيعها للناس، وإشغالهم كلما تيقظ الناس للمطالبة بحقوقهم، واستعادة كرامتهم على الأرض التي ترعرعوا فيها. لقد انتفض الناس هنا في الحديدة وبعض مناطق تهامة كغيرهم من البشر اليمنيين في الحادي عشر من فبراير 2011م من أجل التغيير والتجديد وهو ما يشكل أكبر الاستفزاز لمصالح الفسدة الذين اعتادوا من أهل هذه المدينة وتوابعها التفرج والاستسلام لأقدارهم المفروضة فقط، ولأنهم لا يستطيعون الآن قهر الناس بنفس الكيفية المتبعة في الماضي.. فلا نشك في أنهم قد اهتدوا إلى البديل الأخف لشغل الناس بالجدل البيزنطي في شجرة تبكي أولا تبكي.. إن معرفة من له المصلحة الأكبر، أو في أي وقت لاحق لترويج مثل هذه الفرية الخرافية، وخاصة في مدينة الحديدة المنهوبة المنتهكة لا يحتاج إلى ضرب الرحل أو قراءة كف بقدر القراءة السريعة للفساد الذي أتى على الرمل والبحر واستحوذ على خيرات هذه المدينة ومقدراتها. من ذلك فلن ينفك أربابه من نسج أعجب وأغرب الأساطير. رابط المقال على الفيس بوك