تعتبر الفلسفة في نظر البعض مصدر إزعاج، كما أنها مصدر تهديد للعقيدة عند آخرين. والبعض يصاب بالدوار مع تعاطي عقار الفلسفة؛ فهي تسحب من تحت أقدامه المسلمات واليقينيات. ولكنها بالمقابل عند آخرين مصدر متعة بدون حدود، لأنها تأخذه إلى عوالم سحرية، لا تكف عن التجدد وتغيير شكلها الخارجي دوما، مثل عروس تبدل أناقتها باستمرار. ومن نهض بالعقل في التاريخ هم بضع مئات من أدمغة الفلاسفة. وحسب برتراند راسل الفيلسوف البريطاني في كتابه (النظرة العلمية) فإن عصر النهضة كله يدين إلى مائة دماغ، ولو تم اغتيالهم أو القضاء عليهم أو ماتوا، لما كان هناك نهضة وناهضون. مع هذا فالفلسفة رحم العلوم، وهي تشبه من جهة شجرة باسقة تضرب في الأرض بجذورها، جذعها العلوم، وثمارها التكنولوجيا والصناعات. وهنا نرى جدلا بين ثلاث؛ الفكر والعلم والأشياء. فلا يتقدم العلم بدون أرضية راسخة من حرية الفكر الفلسفية، لأن الفلسفة فتح للعقل على كل أنواع الأسئلة المزعجة والمحرجة بدون حدود وخوف. ولم يكن للحضارة الإسلامية أن تنهض لولا اتصالها بالفكر اليوناني، كما قررّ ذلك عبد الرحمن البدوي في سيرته الذاتية. وهو كتاب جدير بالتأمل، يشبه من جهة كتاب خارج الزمن لادوارد سعيد، أو حفريات في الذاكرة للجابري المغربي، أو قصة الإيمان لنديم الجسر. والكتب القيمة نادرة، ومن ينتبه لها أندر من النادر. ولن ننهض اليوم إذا لم نتصل بالفكر الفلسفي العالمي، وهي مسافة خمسة قرون. والفكر الفلسفي يجب أخذه مفصولا عن التاريخ الاستعماري وفتوحات بوش التعيس؛ فالفلاسفة والمفكرون قوم لا وطن لهم وهم إنسانيون، ربهم واحد، مثل الأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتى. أما نحن فمثلنا مثل من كان جده ملياردير وهو مفلس، فما يزال يتحدث عن ثروة جده العظيمة، التي لم يبق منها شروى نقير. وهي حجة لن ننهض بها، فضلا على أنها مخدرة لنا عن إبصار واقعنا المزري. فهذا تفكير ضار يجب التخلص منه والتخلي عنه، لصالح فكر مفيد يبني، وإلا كان مثلنا مثل الشيطان الذي مضى إلى طريق اللاعودة واللاتوبة، لأنه لم يراجع نفسه، ولم يعترف بالخطأ كما خالفه أبونا وأمنا من قبل آدم وحواء فاعترفا، أما الشيطان فقد نسب الخطأ إلى الرب فقال بما أغويتني. وربما كان الفيليبينيون في هذا الجانب أفضل من العرب، لعدم وجود تاريخ زاهي عندهم، فهم يعتمدون على سواعدهم لبناء أنفسهم. ويعتبر نيتشه ضوء باهراً في الفلسفة، من الذين بحثوا عن الحقيقة بأي كلفة. فاعتبر أن من أراد أن يرتاح فليعتقد، ولكن من أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل؟ أما سقراط فيعتبر فلتة عقلية في التاريخ، وأخطأت أثينا في حقه فحكمته بالإعدام وهي ديمقراطية، وهذا يحكي أن الديمقراطية أحيانا عوراء عرجاء جدعاء كسحاء! ويرى سقراط أن الفلسفة لا تجيب عن الأسئلة؛ بقدر فتح الباب مع الإجابة على كل سؤال، بسؤالين جديدين، مما يشكل زاوية منفرجة للمعرفة، لا تكف عن الاتساع. ومنه فإن الغربيين يعطون لقب فيلسوف لمن يحصل الدكتوراه في العلوم، ولكن لا ينتبه أحد لهذا اللقب (PhD). ويسمونه دكتور وهو فيلسوف! ومع أن ماركس أعلن (موت الفلسفة) إلا أنها حية جذعة لا تكف عن مد أغصانها في كل حقل معرفي. ورأى برتراند راسل أن الفرق بين الدين والفلسفة والعلم، أن الفلسفة منطقة لا اسم لها، تتأرجح بين الثيولوجيا والعلم، ومعرضة للهجوم من الجانبين. فالدين يعطي إجابات نهائية قاطعة، عن قضايا غامضة غير قاطعة، لا جواب لها عند العلم، مثل ما بعد الموت، وانشراح النفس، ومعنى الصلاة، وبداية الكون ونهايته، وهدف الحياة، والحياة الروحية، وجدلية الفناء والبعث والنشور. أما العلم فهو يهتم بعمليات الكفن والدفن، وتحلل الجثة، والطب الشرعي، والصمل الجيفي (تخشب الجثة بعد الوفاة بساعات). العلم يبحث في الكيف؟ فكيف تتشكل السحب؟ ومم يتكون بناء الذرة والمكونات دون الذرية من الكواركز واللبتونات؟ والكود الوراثي في نواة الخلية؟ ولماذا يحدث التسونامي من تصدع وصدم صفيحات قشرة الأرض ببعض؟ والعلم يقول إن سبب ملوحة البحر هو كلور الصوديوم، ولكن الفلسفة تقوم بتعليل ذلك، ولا تكف عن التفسير، وتقفز من تفسير لآخر، وتتحرك من تعليل لثاني، فتهب حركة دائمة للعقل، ونمو معرفي بآلية الحذف والإضافة. ويقولون في تعريف الفيلسوف إنه ذلك النهم للمعرفة، ولا يكف عن القراءة ولو في وسط حشد من الناس، غارقا في سحر الكلمات والأرقام، يقرأ قياما وقعودا وعلى جنبه، ولو في حافلة ومترو متعلق ذراعه بقضيب معدني في باص! أو في قبو الأمن السياسي في التحقيق، وهو يقرأ في الديموغرافيا، أو عن فيلسوف التنوير كانط؟ فمن رأيته على هذه الشاكلة من النهم المعرفي؛ فاعرف أنه وطأ بقدمه محراب الفلسفة. ويقولون أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين؟