عمارة الأرض هي إقامة الحضارة عند ابن خلدون, والإنسان هو من أوكلت إليه هذه المهمة وفقاً للأمر الرباني الصريح: “هو أنشأكم من الأرض واستخلفكم فيها” لذلك يبقى إنشاء المدن وتشييد المباني وبعث الحياة في الفلوات والشعاب دوراً حضارياً ينبغي لمن يقوم به استحضار مبادىء الاستخلاف الحق التي أعلاها إرساء العدل وصون الحقوق وخدمة البشرية وتبادل المنافع فيما بينها ونشر السلم بين أممها وشعوبها, وأدناها استحضار مستقبل البشرية والعمل لصالحه بإتقان وتنظيم يعمل حساباً لمبدأ التغيير والتطور في حياة الناس على كافة الجوانب. و”تعز” اليوم مدينة تستعصي على الانحصار في بضعة كيلومترات لتمد رجليها في سهول ممتدة على شمالها الشرقي باتجاه مدينة الجند التاريخية عاصمة الرسوليين الأولى وأجزاء أخرى فسيحة من مديرية التعزية..هناك حيث ينتظر التاريخ اختطاط مدينة ساحرة سيطلق عليها “تعز الجديدة”. و«تعز الجديدة» هذه ستكون مثل أمّها أحسن مدن اليمن وأعظمها، بشهادة ابن بطوطة عندما زارها في القرن السابع الهجري، وقبله شهادة أطباء الأمير الأيوبي شمس الدين توران شاه بن أيوب، عندما سار في الجبال وهم معه ليتخير عاصمة نقية الهواء صالحة للسكنى، فكان أن وقع اختيار أطبائه ومهندسيه على “تعز” القلعة ليختط عند أقدامها مدينة تعد إلى اليوم من أبرز حواضر اليمن، ومن أروع المدن العربية لفرادة مناخها وسحر طالعها, لا سيما أنها تنام وتصحو في حجر جبل أشم يغذيها بسحر طبيعته ومناظره الآسرة وإطلالته البديعة على صفحتها كقديس أسطوري منهمك في عزف سيمفونية الخلود. لكننا نقول إن«تعز الجديدة» ستفضل “القديمة” بأرضها المستوية، فليست مثلها أرضاً جبلية تحتاج إلى مشروع للحماية من كوارث السيول أو للرصف الحتمي لكثير من الشوارع والأحياء والممرات التي يتحول “الأسفلت” فيها بفعل السيول إلى سجادة مطوية!!. “تعز الجديدة” مدينة ذات موقع فريد يمتد بين عاصمتين قديمتين هما:«تعز القديمة» العاصمة الأولى لدولة بني أيوب في اليمن, ثم أصبحت عاصمة لبني رسول من بعدهم لمئات السنين، والثانية هي “مدينة الجند” العاصمة الأولى لدولة بني رسول، إذ كان أول ملوكهم ومؤسس دولتهم “عمر بن علي بن رسول” قد اختارها عاصمة لحكمه, ثم انتقل عنها أبناؤه من بعده إلى “تعز” وجعلوها عاصمة دائمة لهم حتى زوال حكمهم بمجيء الطاهريين..فهذا الامتداد النادر يكسب مدينة المستقبل “تعز الجديدة” شأناً حضارياً ينبغي أن يحسب له حسابه وتجند لأجله مختلف العقول الهندسية والمخططات الحضرية والشبكات الخدمية؛ لتصنع مدينة للمستقبل تتلاءم مع ندرة تركيبتها البيئية لتكون منتجاً سياحياً يفاخر به اليمنيون. من الملامح الأولى لمدينة تعز الجديدة شق شارع جديد, وقد تم تجهيزه، يمتد من منطقة “الذكرة” شرقاً حتى منطقة “حذران” غرباً، والمطلوب من الجهات المختصة أن تستحضر قيمة هذه الحاضرة اليمنية المستقبلية وتجتهد في إعداد مخططات وتصورات غاية في الحداثة والتطور تبني عليها بقية الشوارع الافتراضية. ينبغي لنا أن نودع اليوم زمن العشوائية والتزاحم والاكتظاظ الذي منيت به تعز ما بعد الثورة في الستينيات والسبعينيات, وانسحب غير قليل منه إلى تعز الثمانينيات وما بعد الوحدة..فإلى اليوم لم يتمكن وسط مدينة تعز من أن يتنفس الصعداء بفعل تزاحم المباني وضيق الشوارع وانسداد الطرقات لا سيما مع تزايد أعداد المركبات في الآونة الأخيرة والارتفاع المتواصل في معدل النمو السكاني في مدينة هي الأولى في عدد السكان من بين المحافظات اليمنية. ولتعز الحالية مشكلاتها في مستوى شبكات المياه والصرف الصحي فضلاً عن قلة منسوب ما يتطلبه أبناؤها من المياه، وهذا يتطلب لمستقبل تعز الجديدة ممارسة إدارية ناجحة تحسن تشخيص المشكلات وابتكار حلول جدية لها، فلم يعد ينفع مع المستقبل سياسة الترقيع والحلول الآنية أو معالجة الخطأ بخطأ أفدح. ولأن تعز الحالية كثيفة السكان، ليس فيها موضع شبر إلا وعليه قدم إنسان، فإن من المنتظر أن تنتقل الحركة شيئاً فشيئاً إلى ما استجد من شوارع تؤسس لتعز الجديدة، وهذا يلزم الجهات المختصة بالإنشاء والتخطيط الحضري أن تتنبه لأشياء كثيرة تعد من أوجب الواجبات في مدينة عصرية مثل تخصيص مساحات خاصة للمراكز التجارية والأسواق الجامعة, ومثلها للمدارس والمساجد والحدائق والمتنفسات والمكتبات الوطنية ودور الثقافة.. وهذه كلها أساسيات حضرية يعد إهمالها تكريساً للقروية التي منيت بها كثير من مدن اليمن اليوم، وإني لأستحي أن أقول إن بني رسول قبل ستمائة عام ونيف لم يتغافلوا هذه الأماكن عند بنائهم لعاصمتهم السياسية، بل خصصوا لها الأماكن المناسبة وأوقفوا لها الأوقاف الكثيرة وعينوا عليها مسئولين برواتب شهرية، ونحن لاتزال إلى اليوم بعض مدارسنا على قلتها وتزاحمها بالإيجار بل ولاتزال المكتبة التابعة للهيئة العامة للكتاب تستجدي من المسئولين التكرم عليها بمبنى خاص يسمح للمرتادين بالقراءة والإطلاع وذلك بعد أن هُجرت من مبنى المنتزه في المسبح، واختير لها الانزواء في حجرة مظلمة من المعهد العالي للمعلمين، مفضلين استثمار حديقة الوحدة بأشياء ترفيهية لا يمكن أن ترقى إلى مرتبة الكتاب وتغذيته العقول بالفهم والإدراك الصحيحين الذي نحن بحاجة إليه اليوم لنصد بهما هجمات الفكر المغلوط في أوساط الشباب. نعود لنقول بملء أفواهنا: لسنا بحاجة إلى مدينة ناهضة بثوب قديم، بل ما أحوجنا إلى مدينة سياحية نعيش بها زمن المعاصرة بحق وحقيقة ..مدينة هادئة لا تعرف مشكلة الازدحام المروري؛ لأن لها مواقفها الخاصة للسيارات ولها خطوطها الفسيحة وأداءها المروري بوسائله المعاصرة, ولها أيضاً باختصار طابعها الحضاري المميز الذي يجعلها منتجاً سياحياً له مردوداته الاقتصادية.