بأمر إداري من الأستاذ الزميل سمير اليوسفي – رئيس مجلس الإدارة – رئيس التحرير كنت واحداً ضمن فريق تم تكليفه للمشاركة مع المهندسين الألمانيين توماس وجوليان اللذين حضرا من ألمانيا لتركيب آلة الطبع الصحفي الألمانية الجديدة التي تم التعاقد على توريدها من شركة (K.B.A) العملاقة المشهورة في هذا المجال بالتحديد. وبالمناسبة فإن الأستاذ سمير يحلو له بل – يحرص – على مناداة مرؤوسيه بالزملاء ليس بالقول فحسب بل إنه يجسد ذلك في أسلوب عمله الإداري وتعامله مع الموظفين والعمال. توماس في عقده الخامس تقريباً .. أما جوليان ففي العقد الثاني من العمر وأنا أكتب عنهما ... أكتب عن التقدم العلمي والتقني المذهل .. وعن الفارق الحضاري والمدني بيننا وبينهم .. أكتب عن احترام الوقت.. وتقديس العمل الذي يفضي إلى إنتاج حقيقي يصب في خانة الخدمة الإنسانية وتطوير الحياة. أكتب عن التواضع وعدم الاستعلاء رغم الكفاءة المذهلة .. أكتب عن البساطة والبُعد الأخلاقي والإنساني في عمل هؤلاء في حضور المؤهلات العلمية العالية والخبرة الميدانية الجيدة. في رحلة الخمسين يوماً تقريباً – وهي الفترة الزمنية التي احتاجها توماس وجوليان - كي تقف آلة الطبع شامخة وسط هنجر الطباعة الذي يبتعد أمتاراً قليلة عن مكتب الأستاذ سمير في الدور الخامس في مبنى المؤسسة الضخم، سارت أعمال التركيب بكل هدوء وسلاسة وإتقان بديع يخلو من أي ضجيج وليس كما نفعل نحن عندما نؤدي عملاً تافهاً أو بسيطاً ترافقه الكثير من الأخطاء ونقيم الدنيا ولا نقعدها .. ولينظر أحدكم على سبيل المثال ماذا يحدث وكيف يحدث إذا أردنا صبة سقف منزل أو ما شابه ذلك من أعمال .. ؟! وأنا أشرف مع زميلين لي على أعمال التركيب كانت دهشتي عظيمة ومصحوبة بإعجاب ينم عن تقدير عالٍ لهذين الاثنين – اثنين فقط – وهما يرتبان عملهما خطوة بخطوة وينجحان في أن تصير تلك الكمية الهائلة من الصناديق التي كانت ترقد فيها الآلة قطعاً صغيرة لتصبح الآن آلة عملاقة تشمخ عالياً دون أي قصور أو أخطاء تُذكر !! في لحظة شعور بالإعجاب والامتنان لعمل توماس وجوليان كان لزاماً علينا أنا وزميلي معتصم المرتضى – رئيس لجنة الضيافة أن نترجم تلك المشاعر إلى شيء عملي وكان القرار ان نصطحب توماس وجوليان في نزهة إلى جبل صبر الذي يبدو أنه أثار تساؤلاتهما كثيراً وخلب لبّيهما وهما يريانه يومياً من شرفتهما في الغرفة التي يقطنانها في فندق السعيد (سوفتيل سابقاً). اخترنا أن يكون ذلك في يوم إجازتهما .. وإجازتنا نحن أيضاً وبالمناسبة فإن توماس وجوليان كيّفا طريقة عملهما بشكل أسبوعي ما عدا الجمعة احتراماً لمشاعر المسلمين ، ونحن منهم بالطبع ؟! عند الرابعة مساءً كنت وزميلي معتصم نقف بسيارتي الخاصة أمام باب الفندق حيث توماس وجوليان في انتظارنا وفي كامل أناقتهما الألمانية. سلكنا الطريق الملتوية صعوداً إلى قمة جبل العروس حيث تهبط الطائرات وكنت حريصاً أن أرصد علامات الدهشة والإعجاب في وجه توماس وزميله أثناء الطريق الذي قصف درجة الحرارة من 28 درجة أسفل المدينة إلى 12 درجة فقط في أعلى العروس..في طريق العودة نزلنا في استراحة علي الصبري كي نواصل مضغ القات وليشرب توماس وجوليان الشيشة التي أعجبتهما كثيراً بعد أن رفضا تناول القات معنا رغم الإغراءات لكننا ظفرنا بوعد منهما على أن يفعلا ذلك عقب الانتهاء من تركيب الآلة وبدء التشغيل. قلت لتوماس بإنجليزية أجيدها إلى حد معقول ونحن نرى تعزالمدينة إنها مدينة سقطت من السماء Fall Down From Sky كأن الله قد فرغ من خلقها للتو .. وكان تعليقه أن سكان هذه المدينة هم أحباب الله فعلاً .. وإن المدينة تبدو جميلة وساحرة من هناك في المساء. كنت وزميلي ندرك رغبة أستاذنا وزميلنا سمير الذي حرص أن يعطي للموضوع بعداً أخلاقياً وقيمة إنسانية فليس الأمر مجرد عقد تجاري بين مؤسستنا وشركة أجنبية لكنها فرصة سانحة كي نقدم أنفسنا وبلادنا ومدينتنا بشكل حضاري أنيق يليق بسمعتها وتلك الانطباعات السائدة لدى الغرب عن الاحتفاء وكرم الضيافة وملاطفة الغرباء وتبديد كل الأوهام والشكوك التي روَّج لها الإعلام غير المسئول. اصطحبنا توماس وجوليان إلى أماكن تاريخية مثل الأشرفية والمظفر .. وأكلنا معهما في مطاعم شعبية ... وتجولنا في أحياء تعز القديمة .. وتشاركنا معهما لحظات الانبهار والدهشة كل على طريقته !! وقت العمل والواجب شيء مقدس .. وكذلك الدقة والكفاءة .. كما أن وقت المتعة واللهو والإجازة مقدس أيضاً ربما بنفس القدر.. فهم يقولون: إن الشعب الذي يلهو ويتمتع جيداً يستطيع كذلك أن يعمل جيداً..رغم حرصنا الشديد أنا وبقية زملائي في لجنة الإشراف على تلبية كل ما كان يطلبه توماس من طلبات أعمال التركيب وبسرعة فائقة – من وجهة نظرناً طبعاً – إلا انه كان يغمز من قناة اليمنيين في إهدارهم للوقت بقوله .. افعلها غداً . make it Tomorrow- كان يردد توموروو كثيراً ولكن من غير استعلاء أو أدنى شعور بالتفوق أو قصد الاستهزاء,. توماس وجوليان خالطا الموظفين والعمال وتمازحا معهم وأحبا فهد طميم الذي كان يحضّر لهم وجبة الغذاء وخيري الذي كان يقوم على حراستهم.. بل إنهما ذهبا للصلاة في الجامع ذات جمعة برفقة عمنا المهندس سعيد حسن كبير المهندسين في شركة المتنوعة الوطنية الخاصة بالوطنيين الأفاضل بيت هائل... افتقدني توماس عندما لم يجدني أسبوعاً كاملاً في المكان الذي اعتاد أن يراني بسبب انتهاء مهمتي.. وسأل عني ثم حضر إليّ كي يقبّلني وليصافحني على الطريقة اليمنية !! وفي لفتة إنسانية ذهب توماس كي يحضر صابوناً أحضره معه من بلاده البعيدة ليقدمه لإحدى العاملات المكلفة بتنظيف الهنجر ويخبرها أن تضع جوارب ليديها (جوانتي) وهي تقوم بذلك العمل إيماناً منه بضرورة توفير ظروف ملائمة وأجواء صحية لهؤلاء البسطاء .. الأمر الذي لم نلتفت إليه نحن مع طول معايشتنا لهم. عندما مرض جوليان وتعرّض لوعكة صحية الزمته الفراش عرضت على توماس أن نذهب به إلى المستشفى لكن رده كان بأنه لا قلق فجوليان صناعة ألمانية على حد قوله Made in Germany . يا له من شعور الآن وأنا أرى تلك الآلة تقف شامخة لتلد كل يوم هذه المطبوعة الأنيقة بثوبها الجديد.. ويا له من شعور أيضاً وأنا أواكب تلك المعركة الشرسة التي قادها وخاضها الزميل المقاتل سمير رشاد اليوسفي ببسالة وعنفوان منذ أول وهلة أمام حفنة من المتنفذين وأصحاب المصالح الشخصية الضيقة الذين بذلوا كل ما يستطيعون لعرقلة هذا المشروع الضخم في بداياته الأولى وأزعم أني على مقدرة في سبر أغوار أستاذنا سمير وهو يرى معركته الفاصلة تثمر نجاحاً تلو نجاح ماضياً صوب المجد بعد أن استكمل كل البُنى التحتية لهذه المؤسسة الرائدة. تستحق الجمهورية الصحيفة – الآن – ما هو أكثر من كلمات الثناء والإعجاب التي يتلقاها رئيس التحرير – رئيس مجلس الإدارة يومياً .. ولا يستحق أولئك الذين تنتفخ أوداجهم حسداً وغيرة سوى الإهمال والنسيان. ويستحق توماس وجوليان وبقية زملائهما من أصدقائنا الألمان كل محبة .. وكل شكر .. وكل احترام.