أين تكمن الإعاقة الحقيقية؟ الكون صنعة صانع .. الزمان مناخٌ للموت .. المكان عجينة بيد الزمان.. أيُعقل أن تفنى العجينة ويزول المكان ..!!؟ يعشق المثقف التقليدي الكتب، وتعشق أنامله ملامسة الورق، وتهوى مقلتاه السفر والترحال بين غياهب ومكنونات السطور فينفخ من لهب روحه بين الحروف ليمنحها هوية جديدة تبقى في ذاكرته كالوشم في ظاهر اليد. ماذا يفعل من حرم حظه من التمتع بتلك الهبات والنعم.. نعمة القراءة ونعمة البصر؟ بلا ريب سيسافر الصوت الإنساني في تجاويف روحه ويحل بديلاً عن القراءة فبالبدائل تستمر الحياة.. سؤال يطرح نفسه: أين تكمن الإعاقة الحقيقية, هل في فقدان البصر أم في الصمم؟!! للإجابة على هذا نستعرض تجارب وآراء من يخصهم الأمر, فثمة جدل حول ذلك، فعميد الأدب العربي طه حسين يؤكد أن فقدان البصر ليس مشكلة بقدر الصمم, ويعلل ذلك بقوله إن من يفقد بصره لا يفقد سوى الأشياء الظاهرية من عالم الموجودات فقط, بينما الأصم يفقد تواصله مع العالم الخارجي تماماً.. ولعل ما قدمه المكفوفون للعالم من إبداع يراعي هذا الرأي, بل وهو الأساس الذي بُني عليه, فها هو هوميروس صاحب الإلياذة يتحول إلى أسطورة تعجز الدنيا وها هو أسير المحبسين بشار بن برد يعلن: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقةٌ والأذن تعشقُ قبل العين أحيانا أما المعجزة أحمد ضرير المعرة معلم الدانتيين فيقول: “أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث” ويقول أيضاً : “ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً وحقّ لسكان البسيطة أن يبكوا تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاجٌ ولكن لا يُعادُ لنا سبكُ” وهاهو عمار الشريعي يتحف الدنيا بألحانه الموسيقية وإبداعاته التي شغلت الناس. وهاهو العملاق البردوني يعلنها متحدياً: أطعمتهم منّي إليّ تسربوا أضحوا فمي خبزي بناني معزفي لا تكترث إنّي على أميتي أرنو إلى هدفي أرى مستهدفي من كل ثُقب يوغلون بداخلي وبرغم إتلافي أُحرقُ متلفي” إزاء ذلك ثمة رأي آخر يثبته الموسيقار بيتهوفن وهو الأصم الذي أبدع سيمفونياته, فهلل لها الجمهور و صفق لها التاريخ ولازال صداها يتردد في ثكنات مسامعنا حتى اللحظة. ولا ننسى في هذا السياق رأي هيلين كلر, والتي أثبتت للعالم أنه لا توجد إعاقة أصلاً طالما توجد هناك إرادة قوية, وطالما أن الإنسان يريد, ولذلك فقد أوجدت لها مكاناً في هذا العالم وحققت ذاتها وأثبتت وجودها. ولعل من الجدير ذكره أنها كانت تعاني فقدان البصر والصمم, وكانت آراؤها حول أين تكمن الإعاقة الحقيقية آراءً إنسانية صرفة, فقد تمنت أنها لو منحت نعمة البصر لرؤية من جعلوا حياتها جديرة بأن تُعاش.. وهي من قالت إنّ: “الحياة مغامرة جريئة”. وهنا نقف لنردد قول أبي فراس الحمداني: “لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ” وهذه هي الإعاقة الحقيقية فلا الصمم ولا العمى يستطيع أن يوقف النهر عن الركض، فليس سوى أن يريد الإنسان ليثبت ذاته ويحقق وجوده..قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:«من ابتليته بحُبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة» وقوله حُبيبتيه يجعل من المعنى متسعاً, وهذا أهم شروط المجاز وله وجوه عدة فقد فسرت وقرئت على أنها عينيه, ولكن لأن الرسول الأعظم أوتي جوامع الكلم وكلامه حُفّ بالعصمة وأؤيد بالرشد, هذا فيما كان يقوله هو فما بالنا فيما يرويه عن ربه, ولذلك نقول إن لفظة حبيبتيه تشمل كل ما قد يفقده المرء من أعضائه لسبب بسيط, هو أن تركيبة النعم والحواس التي تفضل بها علينا رب العالمين زوجية, ولأن الله لا يفرق في جزاء الابتلاء الذي يبتلي به عبده بشرط الصبر، ولذلك نقول إنه لا توجد إعاقة فيما يخص الأعضاء والحواس.. والإعاقة الحقيقية هي في عمى وصمم القلوب, والآيات القرآنية تؤكد ذلك وتثبته, وفقدان الحواس لا يعني البتة فقدان الإحساس, بل على العكس فقدان الحواس يجعل المرء أكثر حساسيةً وأرهف شعوراً وأعظم إنسانية. [email protected]