لم أصدّق أن صورة الجثة المحترقة عرضها عليَّ أحدهم من تلفونه السيّار كانت ل«ماجد» صديق الطفولة والدراسة الابتدائية, المقتول غدراً على يد بعض أقربائه, بسبب خلاف مالي, يتعلق بما تركه الأب لماجد وإخوانه من ميراث بسيط, لا يستدعي أن يكشر أحد الإخوة عن أنياب الجريمة, ليحكم على ماجد بالموت, وليس الموت فحسب.. بل والحرق أيضاً!! كان موقفاً أضعف قواي, وأصابني بالذعر من هول الحادثة, لاسيما وأنا أرى ذلك الجسد الوقور والوجه المضيء, المكلل بالوسامة والكاريزما قد تفحم وذاب, ولم يبق إلا هيكل العظم دالاً على إنسان في مقتبل العمر, انتهى مشوار حياته القصير ببضع طلقات نارية في رأسه, أردته قتيلاً, لتبدأ بعدها رحلة إخفاء الجثة من الدفن في فناء أحد المنازل إلى النبش ونقل الرفات إلى مكان مقفر أوعز فيه لأحدهم بأن يقوم بعملية الحرق. يعتصر قلبي دماً, وأنا أسمع الروايات المتعددة عن حكاية مقتل “ماجد”.. كم تخنقني العبرات إذا ماتذكرت قولهم : إن ماجد قاوم الموت بكل ما استطاع, لكنه لم يستطع أن يفر من قدره.. كان يعلم مدى الحقد, الذي يغلي في نفوس بعض أقربائه على إثر ذلك الخلاف, الذي لم يحُسم، لكنه لم يفكر يوماً أنه سيدفع حياته ثمناً لذلك.. بل ولم يعتقد أن حياته ستهون إلى هذه الدرجة لدى خصومه، غير أن ما كان يميز ماجد من الحدس والفطنة والذكاء لم يسلمه مباشرة إلى وجه المصيبة، فقد تيقظ لما قد يدبرون له من مكيدة، وكان – كما يقال – حذراً أشد الحذر, إلا أن سلامة قلبه من الغلِّ ودنو ساعة الأجل ألزمته بأن يستجيب لدعوة “أخيه وصهره” لحضور مقيل خاص في منزل أخيه, بعد أن أشعروه بالأمان وصفاء القلوب ثم كان ماكان. جلس ماجد للمقيل بحذر، ولشدة حرصه وتوجسه من هذه العزومة المفاجئة, قام ماجد بتفتيش غرف البيت, الذي كان يومها خالياً من السكنى, علّه يجد قطعة سلاح خبأها أعداؤه ليجهزوا عليه بها.. فكما يُقال: إن ماجد أجرى تفتيشاً دقيقاً إلا أنه تغافل عن أن يكون الأشرار قد حشوا جوف “الغسالة” بسلاح القتل، لذا فإنه قد نسي أن يفتح باب “الغسالة” هذه ليرى ما بداخلها. لا حول ولا قوة إلا بالله.. أجهز الأقرباء على الرجل, وهددوا بمثل هذا المصير لمن كان حاضراً إن هو أفشى الخبر أو أبلغ الجهات الأمنية.. ثم دفنوه في فناء الدار, وأخذوا مفاتيح المحل الذي هو لهم جميعاً من بعد والدهم ففتحوه وأخذوا مافي الخزانة من نقود ظانين بأنهم قد أشفوا غليلهم، ثم عاد كلٌ إلى عمله كأن شيئاً لم يكن .. وبعد مرور فترة من الزمن بدأت الرائحة تنبعث من المنزل فقرروا نقله إلى مكان بعيد وحرقه, وهنا يحضر السبب الذي شاء الله به أن يفضح أمرهم, وتهب أجهزة الأمن للقبض عليهم.. كانت جريمة شنعاء هزت أرجاء مديرية ماوية, وبعثت القرف في نفوس أهلها.. فهذه الوحشية وذلك النوع من الإجرام ليس من طيبة أبناء المنطقة ولم يعهدوه.. لكن كيف للناس أن يتحملوا هذه الصاعقة, والمجرم هنا هو الأخ والقريب، والجريمة هنا عن سبق إصرار وترصد؟! كيف نُزعت الرحمة من قلوب هؤلاء؟! وكيف يكون القتل في عرفهم وسيلة لكسب القضية والانتقام من خصم, لم يرتكب جرماً, وكل مافي الأمر خلاف مالي، القانون أو الشرع أو الصلح أو العرف كفيل بحسمه والفصل فيه؟! ما الذي يحدث لهذه العقول.. أين يذهب تفكيرها بالعواقب وفداحة الجريمة, وأن القاتل لا بد أن ينكشف سره, ويقع في قبضة العدالة ليحاكم ويُقدم إلى ساحة الإعدام في يومٍ ما؟! إنه خطرٌ يتهدد المجتمع بشكل كلي.. إذ إن الاستهانة بالجريمة تحاول يوماً بعد آخر أن تجد لها موطئ قدم, لتصبح ثقافة مجتمعية سائدة يعجز القانون ومؤسسات الضبط والعقاب عن مواجهتها. الأخ اليوم يتقيأ حليب الأم ويخلع رداء الأبوة والأخوة, ويمشي وحده في ظلام القسوة والفردية والأنانية غير مبالٍ بأية قيمة.. فالمهم أن يتغلب على من يختلف معه, وأن يستولي على ما ليس له وحده, حتى وإن كان الطريق إلى ذلك هو أخذ حياة من يقف في طريقه بدون وازعٍ من ضمير أو دين. قد أكون مصيباً إذا قلت: إن المجتمع اليوم بدأ يفقد بعضاً من القيم, وإن لم يكن قد فقدها فإنه – وأنا أعي ما أقول – يبدو عديم الإحساس, إذا ما جاء الشذوذ ليسلبها من حياتنا قيمةً قيمةً.. فاليوم تضمحل من حياتنا مراعاة حقوق الجار وتجف منابع الأخوة والتراحم بين الأقارب – على أقل تقدير – وتبرز إلى السطح الخيانة والخلاف بين الشركاء وتؤكل أموال اليتامى, ويسكت الناس عن قول الحق ومواجهة الباطل وقول المعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.. كل هذه يفقدها المجتمع المسلم ويستسهل فقدها, أو يتغاضى ثم يجلس منتظراً للالتذاذ بمشاهدة أو قراءة أخبار العواقب الناجمة عن تنصل الناس عن هذه القيم, ليستمتع بمتابعة الجرائم الحديثة أسبوعياً على “حصاد الأسبوع” أو يومياً على صفحات “الجريدة” أو حتى حب التجسس ومتابعة حالات الاشتباك بالأيدي أو المعارك الكلامية, بين أفراد هذه الأسرة أو تلك.. أقول هذا وأنا أجد كل من أبلغني بخبر مقتل ماجد يبدو مهتماً – أولاً – بأن الجريمة كان مقرراً تناولها على شاشة برنامج “حصاد الأسبوع” لكن لم يحدث ذلك، ولاندري لماذا؟! ألستم معي في حتمية أن نعيد النظر في خطابنا الديني والإرشادي.. إن خطباء المساجد لم يعودوا يفسحون للحديث عن الأخلاق والفضائل مساحات في خطبهم, بل أكثرهم ينشغل بقضايا أخرى.. وهذه الأخرى قد تكون مهمة, لكن لنعد إلى دائرة الأخلاق, لنذكِّر الناس بها ونعيد شحنها إلى القلوب؛ لأنها أساس الحياة والمادة الأولى للتوجيه الإسلامي, ونحن بحاجة اليوم إلى أن يتمثلها الناس سلوكاً في حياتهم. إن ما يحدث اليوم هو خللٌ في المفاهيم يقود كثيراً من ضعاف النفوس إلى استصغار الجريمة والاستهانة بحرمة النفس, التي حرم الله قتلها إلا بالحق.. فأين الخطباء والمرشدون والوعاظ ليذكِّروا الناس بالله, والاحتكام إلى العقل في معالجة القضايا والشئون, إلى جانب تخويف الناس من ارتكاب الباطل, وملازمة الشرور, واتباع هوى النفس؟! رحم الله ماجد وأسكنه فسيح جناته.