اعتاد (حانب) على تعاطي القات في البقعة التي اختارها بعناية شديدة، في ذيل ميله منذ خمس وعشرين سنة.. أراد أن يحقق من ذلك الاختيار هدفين رئيسيين.. مشاهدة المتواجدين في المقيل على يمينه وأمامه حتى لايضطر الانحراف، أو القيام لأحد ضيوفه المهمين، لايأتي عادة إلا بدعوة منه لمقيله نظام: ممنوع الحضور قبل الساعة الثالثة والنصف.. إحضار المتعاطي مايحتاجه من لوازم القات، ولوحة كُتب عليها (كامل العدد) عندما يبلغ عدد الحاضرين خمسة عشر شخصاً.. التزم الجميع بالنظام الذي وضعه، إلا أن ينظفوا أماكنهم من مخلفات القات التي يتركونها وراءهم أو يلتزموا بوضعها في السلال التي نشرها بطول وعرض المقيل. قبل خمس وعشرين سنة استطاع أن يبني له بيتاً عندما كانت الفرصة متاحة لموظف مثله، منذ ذلك الحين وحياته تسير هكذا: الذهاب إلى الوظيفة والعودة إلى موقعه في المقيل، لا يبرحه إلا عند الضرورة: عرس أو مأتم لبضع دقائق للسلام والعودة سريعاً إلى مكانه، لايتذوق القات ويطعمه إلا في موقعه المفضل أكثر ما يفسد سفرياته التي يقوم بها مضطراً هو حنينه لموقعه لايحتسب تلك الأيام القليلة التي يغيب فيها من عمره أدرك مبكراً بأن حياته لن تمر بسلام إلا إذا رسم لزوجته مساراً مشابهاً لمساره عودها على تعاطي القات، لاتكاد تنتهي من أعمال البيت، تنتهي بتنظيف عدة الغداء، حتى تكون جاهزة للمقيل وعكسه، تقضي المقيل عند جاراتها للهروب من أجل المقيل، ومثلما هو ملتزم ومنتظم في المقيل مثلما هو ملتزم ومنتظم في وظيفته، الكل يشهد له كفاءته وانضباطه في أداء عمله.. لم يغب عن مقر عمله على مدى ثمانية وعشرين عاماً إلا لظروف قهرية.. مرض.. أعياد، وعند زواج ابنته الكبيرة، لكنه لم يصعد السلم الوظيفي إلا لمرة واحدة عندما صعّده أحد رؤساء الجهة المتعاقبين إلى مدير عام لأحد الإدارات واستقر عليها، مقيله السبب الأول في تعثره الوظيفي، والسبب الثاني: الدعم اللازم في الرؤساء المتعاقبين أو من شخص آخر، إذا كان السبب الثاني لايحتاج إلى شرح فإنه لايمكن فصله عن السبب الأول ربما سبب واحد، مقيله الذي عزله عن الناس عزله عن السعي وراء المقيل والمقايل التي يستطيع أن ينضم عن طريقها إلى شلة تضم مجموعة المتنفذين وعزله عن الإلحاح لحضور (مقايل) الرؤساء المتعاقبين شعاره المقيل من أجل المقيل.. لامصالح من المقيل أو حتى ترحيل جزء من واجبات الوظيفة لإنجازها في ساعات مقيل العصر.. لمدة خمس وعشرين سنة، وكل شيء يسير في البيت بمعزل عنه.. أولاد تكبر.. تلتحق بالمدارس، ويصل اثنان منهم إلى الجامعة.. يكتفي بتسليم مرتبه كاملاً لزوجته في نهاية كل شهر لتتدبر أمرها ويتدبر قيمة القات من المبالغ الإضافية التي يستلمها من آن إلى آخر لينفذ ماقال لزوجته في يوم العيد. المرتب للمعيشة ومازاد عن ذلك للقات.. المعيشة والقات وجهان لعملة واحدة، الحياة حتى تنقضي وكما هو ملتزم في عمله ومقيله فهو ملتزم بأداء الفروض في أوقاتها، قبل أن يؤذن لصلاة المغرب بدقائق يكون قد نجع القات إلى الكيس الذي وضعه إلى شماله لينطلق مسرعاً إلى الجامع القريب ليعود مسرعاً، وقبل أن يعود جالساً يكون قد فتح الكيس الذي أحكم ربطه ويعيد ما كان قد نجعه ليضرب عصفورين بحجر، أما صلاة العشاء فهناك متسع من الوقت لأدائها، يؤديها بعد أن يكون قد استوفى ما عليه من واجب نحو القات.. خمس وعشرون سنة مدة طويلة في حياة «حانب» ومقيله، كانت كافية ليغيب ناس ويحضر آخرون.. هناك من اعتبره محطة قصيرة في حياته لينطلق إلى مقيل لايكون من أجل المقيل، وهناك من ترك القات، وهناك من غيّبه الموت إلا أن مقيل «حانب» ظل كما هو عامراً، فمقيل «حانب» أشهر من نار على علم، مقيله مقيل من لامقيل له، فإذا تعذر على أحدهم الحصول على مقيل فمقيل «حانب» ينتظر انتظر عشرين سنة ليعود إليه ناجي الذي لازم «حانب» لمدة خمس سنوات كاملة ليختفي فجأة ويعود فجأة.. قال ناجي: بعد خمس عشرة دقيقة من الصمت المطبق، كانت عينه طوال تلك الدقائق، تدقق بالموجود في المقيل، من أثاث وطنافس، كأنه يحاول أن يستعيد ماتركه قبل عشرين سنة: كل شيء كما تركته.. الأثاث.. الطاولة الصغيرة التي ميزت بها نفسك.. نهض واتجه إلى «حانب».. تناول الراديو، قلبه يميناً ويساراً.. قال مبتسماً: حتى الراديو.. هو هو.. يعيده إلى الطاولة تناول التلفون.. قال (ضاحكاً) حتى التلفون ذو القرص.. قال: (عائداً وظهره لحانب): فماذا تغير في حياتك ياحانب؟ رد حانب (رافعاً كيس القات: هذا.. ما الجديد في هذا القات.. أخرج وريقات (القطل) قال(ملوحاً): قلت هذا.. نظر ناجي إلى عيدان القات الموضوعة أمامه.. عاد بنظره إلى حانب قال (مطرقاً): فهمت.. ليس القات ماتغير في حياة حانب: اللحمة غابت عن مائدته عدا مرة واحدة في الأسبوع.. الملابس التي كان يشتريها من المحلات المشهورة له ولأولاده استعاض عنها بالمعروض في أرصفة الشوارع والعربات.. الفاكهة ماندر، اكتفى بما هو ضروري لبقائهم.. قال ناجي: بعد فترة صمت، كأنه قد قاس على القات متطلباته الأخرى: لابد للقات من (سلتة).. رد حانب سريعاً (ضاحكاً): (مرقة) الدجاج. وعزل نفسه عما يجري في الجهة التي يعمل بها.. التغييرات التي تحصل من آن إلى آخر.. الإنفاق المتصاعد على شراء السيارات والأثاث بقدر التصاعد، بقدر ماركات السيارات ونوعية الأثاث.. مظاهر الرخاء البادية على وجوه وحياة شريحة محدودة من الموظفين، الأداء المتنازل، والوجوه الصاعدة بسرعة البرق وآخرها رئيسه الذي عين قبل سنة، وآخرين يحتلون مواقع متقدمة هبوطاً بالمظلات.. عاش بمعزل عن كل ذلك عدا جهاز الكمبيوتر الذي زينوا به مكتبه مثلما يتعاطى ناجي القات بمعزل عن النقاش الدائر على حال البلاد والعباد. يحكم ناجي ربط الكيس الذي ضم البقية الباقية من قاته.. قال: المشكلة في شعارك.. المقيل من أجل المقيل. ترك حانب بمعزل عن الحاضرين بقية المقيل.. المقيل من أجل المقيل، شعاره، ذكره ناجي وانسل ليعزله عن الآخرين، كأنه يسمعه لأول مرة لم يشعر بهم وهم ينسلون الواحد بعد الآخر عاد إلى مقيله الخالي، أعاده صوت زوجته الواقفة على عتبة الباب: لاتخجل من نفسك ومني، وأنت تشاهدني لكل هذه السنوات، أنظف مخلفاتك، ومخلفات أصحابك. نظر إليها دهشاً لهنيهات، ثم قال (مبتسماً، ابتسامة مكيف، فكانت منهكة): ماقد وقع؟ مانتاش داري؟ والله ما أنا داري. النسوان تخابرين اليوم، إن قد به لجنة، ذي تبري ذمم الموظفين، وماقرّح قلبي، إلا زوجة واحد، أنت تعرفه، قالت.. رد (بصوت متعب، أتعبه طحن القات، ومضغه لساعات طويلة): وأنا مادراني.. قالت ياحانب (وعينها على عيني ساخرة): الحمدلله رب العالمين ذمة زوجي بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، أو مثل (الخبلان) ولابذمتهم شيء.. سمعت يا حانب، واسمع: وذمتي بريئة من تنظيف المقيل من هذه الليلة. تركته مسرعة في غيبوبة المحنة، فلم يسمع صوت الباب الذي سكبت فيه غضبها، كان له دوي اهتز له المقيل، ولم يهتز له حانب، كان في محنة تنظيف المقيل من هذه الليلة.