كان خامة نقية صالحة للتجربة السياسية، فهو ابن قرية، ومراهق، وخياله يتوقف عند حدود أقرب سوق يبيع "حلاوة بندري" "وبيض بالشطة"، أما صنعاء فقد كانت بعيدة جداً، حتى أن "الديمقراطية" احتاجت عامين كاملين بعد الوحدة لتصل إلى باب داره في وصاب. عندما عاد ذات يوم من صلاة المغرب، كانت استمارة انتساب حزب المؤتمر في انتظاره، وعلى عتبة باب داره سمع كلاماً مختلفاً من صديقه: جديداً وغامضاً وسرياً، وبدا له في تلك الليلة وهو ممدد على ظهره يحدق في خشب السقف على ضوء فانوس، إنه بطريقة ما قد أصبح رجل دولة، وفي صباح اليوم التالي مباشرة بدأ نضاله الحزبي.
البداية لم تكن جيدة، كما هي حياته كلها، فهو بدأ على أرض غير مستقرة أبداً، ودائماً ما كان يفقد توازنه، لأنه بدأ مشواره السياسي على ظهر "سيارة شاص"، تسير بدون توقف من قرية إلى أخرى على طرق بالغة الوعورة، ومشكلته التي لازمته وقتاً طويلاً أنه لم يكن يستطيع المحافظة على توازنه واقفاً فوق سيارة شاص يسوقها دائماً شخص متحمس حزبياً.
كانت أيام صعبة، والخيارت محدودة: يده الأولى مشغولة بتثبيت ماسورة الكلاشينكوف المتدلي من كتفه، مخافة كسرها للزجاج الخلفي لمقعد السائق، فيفقد عضوية الحزب، ويعود مشياً على قدميه إلى بيته، و اليد الأخرى تحمل كيس القات، كان من الصعب عليه التقليل من احترامه لذلك الكيس الجديد عليه تماماً ومسكه بنصف يد مثلاً.
ذلك التوازن الصعب على ظهر السيارة علّمه شيئاً مهماً، حتى يظل هذا الحزب متمسكاً بك عليك أن تحافظ على توازنك، وأن لا تسقط، ودع اتجاه السيارة ونوع الطريق الذي تختاره للسائق المتحمس دائماً، شيئ آخر ومهم، عليك أن لا تتخلى عن كيس القات والكلاشينكوف.
انتبه ذات يوم أن مرشحه المؤتمري يشق طريقه إلى مجلسه في رأس الديوان، وخلفه آخر يحمل حذاءه، وقد ساءه ذلك كثيراً، وطوال بقية ذلك المقيل راح يتسرب إليه اعتقاد أن هذا الحزب لا يتناسب والكلام الذي كان يقرأه في مجلة العربي، وفي وقت لاحق من مساء ذلك اليوم وأثناء ما كان يرج المياه بعنف بين تجويف فمه لتنظيف بقايا القات العالق بين أسنانه، انهمر عليه سيل من الذكريات السيئة عن الرجل الذي كان يخزن له ويعيره الآلي ويشرح له معجزات المؤتمر والميثاق، وتأكد له أن صاحبه هذا ليس إلا مجرد تاجر شرير يرفض أن يُدَيّنه على الحساب علبة فول، أو "مُغرف رز".
لقد شعر بالضجر، وسئم من التملق الرخيص الذي يقوله كل يوم، وتعب من تأليف معجزات جديدة ينسبها للأب الرئيس، ليتملق بها رجالاً يحمل أحذيتهم رجال آخرون.
في الأيام التاليه انكب يقرأ رواية الأم للروائي الروسي مكسيم غوركي، وكان بين لحظة وأخرى يعتقد أنه سوف يكون اشراكياً، لكنه وجد نفسه بعد يومين فقط من قراءة الرواية للمرة الثالثة، يُوقِعْ على استمارة الانضمام للتجمع اليمني للإصلاح.
ثمة شيئ غامض في خطوته الأخيرة، لم يبدو واضحاً حتى بالنسبة إليه، لا يمكن إلقاء اللوم على الروائي الروسي، وإن كان عدم فهمه للرواية وخوفه من الإبهار الزائد للأفكار الاشتراكية جزءاً من الأدوات التي سوف يحتاج إليها لو أراد فهم ما بدا له غامضاً في تلك المرحلة.
حتى اللحظة لا يستطيع أن يتذكر الوقت الذي مر بين إغلاقه رواية الأم وفتحه للجزء الأول لكتاب "في ظلال القرآن"، هو في الواقع لا يتذكر شيئ، لقد كان وقتاً قصيراً جداً، لكنه لم ينسَ بعد اللحظات التي وقف فيها مشدوداً ولأول مرة إلى النص المدهش لسيد قطب في الظلال، وفي "أفراح الروح"، وأخذ يحفظ بصورة منتظمة آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، والكثير من أدعية الصباح والمساء، وفي خطوة متقدمة، بدأ يلقي محاضرات قصيرة فيها الكثير من الأشعار التي كان يرددها علي القرني وإبراهيم الدويش والبراك في أشرطتهما، وبمرور الوقت كانت أغاني عبد الكريم عبد القادر وخالد عبد الرحمن ومحمد عبده وفؤاد الكبسي تنسحب إلى خلف ذاكرته، وتختفي تدريجياً وتحل مكانها أشرطة أخرى لمشائخ دين خليجيين، وفي مساء متأخر، قام من فراشه وأيقظ صديقه في السكن المشترك، ليؤكد له بعد منتصف الليل أنه لم يعد يشعر بأي حنين للأغاني، قلبه لم يعد يتسع سوى لكلام الله ورسوله فقط.
نقطة ضعفه في تلك المرحلة الملتزمة كانت في القات والدخان، لكنه وبجهد نضالي جبار كان يقاوم أغراء المقيل الدافئ، ويحضر جلسات الإخوان، ولا ينسى أن يتحول إلى مفتي عندما يتطلب الأمر الجواب على سؤال ديني لجده أو عمته.
لكنه عاد وتورط من جديد في قراءة كتب أخرى، عن حرية الفرد والرأي الآخر، كانت كتب جديدة وبلغة مختلفة، بينها روايات مخدرة ولذيذة، وخلال أيام سريعة وقصيرة كان هناك جيش هائل من التصورات الجديدة يتسلل إلى روحه وقلبه، ويطيح بالكثير من معتقداته. ثم وقع في الحب فعاد إلى الأغاني ونسي الكثير من الأشعار الدينية التي سمعها من قبل.
يتذكر الآن أن السياسة بدأت معه بعودي قات وكلاشينكوف، وانتهت بالتكبير والخطابة، لكنه الآن خالياً من كل ذلك، ويعتقد أن حزبه الذي يحلم به لم يأت بعد. هو يعتقد أنه في هذه البلاد كلها لا يوجد حزب حقيقي بما تعنيه الكلمة، الشيئ الوحيد الثابت والقادر على الفعل السياسي رجل اسمه علي عبد الله صالح، لكنه غير قادر على الوصول إليه، ولا يضمن كيف سينتهي الحوار معه إذا التقى به أو تواجه معه.
هو الآن وحيداً وعاجزاً، وفارغاً أيضاً، لكنه مملوء بالغضب، بالرغبة في الصراخ والصياح، ورمي الأثاث من شباك منزله، حتى يشعر أنه قادر على إحداث تحول بسيط حتى ولو كان مأساوياً.
ربما يقرأ هذا الكلام عن نفسه ويضحك، ولا يدري ماذا يفعل بهذا الجراد السياسي الذي بدأ ينتشر من حوله، ويهدد أحلامه كلها، ربما يتذكر الآن ما كتبه الماغوط ذات يوم: "الكل ينظر إليك تلك النظرة الحزينة المنكسرة كغصن وينصرف متنهداً إلى عمله". المصدر أونلاين