كعادته كل ليلة يجلس في زاوية الغرفة .. يشرب سيجارته.. بينما يده الأخرى تعبث بشاربه..كان شارد الذهن .. مبحرا في تفكير عميق كأن هموم الدنيا فوق رأسه. في الزاوية الأخرى من الغرفة جلس ثلاثة صبية دخلوا للتو ..صامتين في أماكنهم لا سمع لهم صوتاً .. البيت كله هادئ لا يُسمع سوى صوت غير واضح ينبعث من تلفاز قد عفى عنه الزمن. أصوات أقدام قادمة.. إنها زوجته حليمة .. إمرأة في بداية العقد الثالث من عمرها ..لكنك حين تراها أول وهلة تحسبها شبحاً بشكل إمرأة ..رغم جمالها الذي قد بدأ يختفي من وجهها المصفر.. الذي يزيد منظره بؤسا ً(( مقرمتها )) البالية التي تلفها حول رأسها ورقبتها. وضعت أمامه مائدة العشاء.. وهي تهمس بصوت هادئ : - هيا قبل أن يبرد الأكل. لم يرد عليها ببنت شفه .. وضع فنجانه و زحف ببطىء نحو المائدة المتواضعة الموضوعة على الارض. نظر إلى الصبية الذين جمعهم خوفهم البرئ في الزاوية الأخرى من الغرفة .. أردف بصوت غليظ : - هيا للأكل .. علشان تناموا. مرت برهة من الوقت ..لا تسمع فيها غير أصوات الملاعق والكؤوس.. الكل يأكل في صمت. فرغ من أكله قبل الجميع .. - أنت ما أكلت شيئ . - ومن متى أنا أكل بعد القات. رد بضيق .. و قد أشعل سيجارته .. وعاد لما كان عليه. لفت إنتباهه إبنه الصغير و هو يهمس في أذن أمه بصوت لا يكاد يسمع : - ما قال لك ؟ - الأستاذ قال لازم تحضر للمدرسة بكره. - ليش ما يقول لي انا ؟ ليش بيقول لك أنتِ ؟ - ومن يقدر يكلمك في هذا الوقت ؟! إبتلع غضبة .. وهو يتمتم : - تمام إلى بكرة .. الآن إلى النوم .. أنا الآن ضبحان . - ومن متى أنت مش ضبحان ؟!! ردت حليمة بحزم .. وهي ترفع المائدة .. . صاح وقد بدا عليه الغضب : - ما قصدك؟؟ - ما قصدي شئ. همست بدون أن تلتفت إليه خارجة من الغرفة وقد هم الأولاد باللحاق بها ** - من متى انت مش ضبحان؟؟!! كانت جملتها ما تزال تتردد في ذهنه .. أطفأ سيجارته المنتهية .. وأشعل أخرى .. كان يحاول إطفاء غضبه... إنه نفس الكلام .. نفس الكلام الذي سمعه اليوم في (( المقيل )) ..وهو نفس الكلام الذي يسمعه كل يوم. أخذ يتذكر كلام الدكتور محمد في (( المقيل)) وهو يحدثهم عن القات و أضراره .. أضراره التي ربما يعرفها هو أكثر من الدكتور محمد نفسه.. أخذ يطبق كلام الدكتور محمد على نفسه على حياته ..على أولاده .. إن له فترة طويلة لم يجلس معهم جلسة أب مع ابنائه ..إنه حتى لا يتذكر متى آخر مرة خرج معهم للنزهه .. لا يتذكر متى اخر مرة ذهب لزيارتهم في المدرسة .. أخذ صدره يضيق وهو يتذكر هذ كل هذا .. أطفأ سيجارته بضيق . أخذ جهاز الريموت .. محاولاً عبثاً أن يجد ما يسليه في التلفاز.. طاف بخياله صورة زوجته .. أمعقول أن هذه المرأة هي نفسها الفتاة التي كانت قبل أعوام قليلة من أجمل فتيات القرية. - أنا السبب . همس بداخله ..وهو يراجع تصرفاته معها ..يراجع ظلمه لها .. وصبرها عليه.. إنه حتى لا يجلس معها كما كان في السابق .. فهو لا يعود إلى البيت إلا منهكاًَ من العمل في الظهيرة ..و في المساء يكون((المقيل)) قد أخذ من فيه كل الكلام .. كما يكون قد أخذ كل الطاقة اللازمة للضحك والسعادة في المساء. عاد يسترجع كلام الدكتور محمد عن أضرار القات الصحية والاقتصادية .. . أخذ يسترجع مواقف الذل التي عاشها بسبب هذه النبتة التي يلعنها كل يوم .. كم مرة أهان نفسه عند إنسان ربما هو أقل منه مكانه وثقافة وعلماً يدعى ((المقوت)). ها هو يعيش في بيت لا يمتلك أياً من الكماليات ، فضلاَ عن إحتياجاته للأساسيات .. بيت كل مافيه قديم و رث ..بيت أشبه ببيت من عهد قبل الثورة .. كما يصفه أخوه أحمد دائماً .. إنتفض جسمه .. اعتدل في جلسته وقد تغيرت ملامح وجهه وهو يتمتم بصوت مسموع : - سأتغير .. سأتغير .. لن أستمر في الخطأ.. وحتشوف يا دكتور محمد أن هذه المره ليست ككل مره وحتشوفي يا حليمة أن كلام الليل لن يمحوه النهار هذه المرة. كان موقناً في قرارة نفسه انه يجب ان يتغير .. كما كان موقنا ايضاً أن هذا كلام كل ليلة يجلس فيها بمفرده بعد إنتهاء (( المقيل)) و أن هذا القرار يلتغي بمجرد ظهور ضوء الصباح. - لكن لا .. لا .. ليس هذه المرة .. همس بداخله .. و قد طار به خياله في فضاء المستقبل .. مرت ساعات طويلة .. وهو يفكر كيف سيكون حاله بعد أن يترك القات .. سيأخذ أولاده كل جمعة لخارج المدينة .. سيدخلهم كل حدائق الألعاب .. سيشتري لزوجته (( زنة و مقرمة )) .. سيوفر .. وسيشتري أيضاً تلفزيون جديد بحجم أكبر .. ويؤثث البيت من جديد... نعم سيتغير .. سيصبح إنسانا آخر. نهض وهو يبتسم .. ذاهباً إلى غرفة نومه ليكمل أحلامه في المنام ،،، * * * الساعة الواحدة ظهرا . الجو حار .. الشمس في كبد السماء ..عاد إلى منزله منهكاً بعد يوم عمل شاق كما يحلو له أن يسمية دائماً مدَ كيسه اليومي لإبنه و هو يردف في عنف : - إغسل القات بسرعة ..و هيا للغداء.