سحق عمي راجح القات في المدق الحديدي قبل ثماني وأربعين سنة، ويسحقه الآن بالخلاط الكهربائي وقبل الخلاط الكهربائي كان يسحقه بالخلاط اليدوي.. لا يذكر كم كان عمره ساعة أن تساقطت أضراسه دفعة واحدة ولكنه يقول (ضاغطاً على زر الخلاط): كان يقول أبي بأني ولدت في السنة ذي انتصر فيها الإمام يحيى على الأتراك. طيب ياعم راجح.. ومتى تساقطت أضراسك؟ قبل الثورة بسنتين، واحنا الآن في السنة ذي وصل بينها كيس (البر) سبعة آلاف ريال وأنت ياولدي قلب وصلب واحسب. أحدق في وجهه المنهمك كله في غَرف مضغة من القات المطحون بمعلقة ترتعش، مثل يده التي تمسك بها.. رعشة لا تنتهي إلا عندما تصطاد شفتاه الملعقة فتصطاد المضغة يخزنها في حنكه الأيسر.. ليس كلها فقد اصطادت معدته ما استطاعت. عمي راجح متميز في القرية قبل أن تتساقط أسنانه يملك أرضاً يحرثها بثورين قويين لمدة أسبوع وبعده من ينثر في بطن الثلم حبات الذرة أو القمح، أو العدس أو الشعير في السنة مرة وإن جادت السماء مرتين في السنة وأحياناً لا تجود، فهي المجاعة، فيحتاط لها بتخزين الفائض بمدفن نحته والده في صحن بيته فبيته أساسه صخر، ويزرع القات في أكبر قطعة يملكها من بعد والده حصد الوباء إخوته الخمسة، فلم يبق إلا هو وبتنان تزوجتا.. حياته الأرض فمنها يأكل ليعيش ومنها يحصل على النقود لتغطية احتياجاته الأخرى ومنها يتعاطى القات ليكيف.. رد ( محتجاً): - الكيف هو الاستثناء المطلوب. آخذ قسطاً من الراحة لأستعيد نشاطي لمواصلة العمل في الأرض.. أطلق حينها تنهيدة طويلة ثم قال: - العمل في الأرض لا ينتهي إلا عندما ننتهي.. والاستثناء هو يوم ممطر أو يوم تكون فيه الأرض حبلى بالماء أو يوم بالقرية ويوم أن تساقطت أضراسه كان يوماً شتوياً حل فيه العيد وحل رجال القرية في مقيلها وجلس إلى جواره حزام.. قال حزام (هامساً): - هات شوية قات. - فقد أعطيتك.. قدك الرابح.. لم أعط غيرك. - وذي اعطيتني تحسبهن. - الدنيا شتاء ياحزام.. خليلي حالي.. ما ناش داري أيش ذي أديك جنبي.. انحنى حزام نظر إلى قاته.. ثم قال (بغيظ مكتوم): - يالطيف كم معك قات.. هات قات ..هات - ماناش مادي ولو نزلين أسنانك لا تجاهي. - كان الله يبزك أنت واسنانك.. وفي اليوم التالي استيقظ بدون أضراس وقال لحزام (متحدياً): - ولو يا حزام.. ما ناش مدي وخلق الله مدق. وضع عمي راجح المدق والخلاط اليدوي والكهربائي على الطاولة التي تجثم أمامه – بارتفاع الفرش الذي يجلس عليه والمسند الذي يتكئ عليه – شاهداً على انتفاله من عصر الظلام إلى عصر النور.. أمسكت يده بيد المدق وضرب على وريقات وأغصان القات التي كومها في بطن المدق للحظات ثم سحقها للحظات أخرى.. وضع يد المدق جانباً ووضع يده في بطن المدق متلمساً بأصابعه الخمس حال القات فإذا وجده مناسباً أخذ مضغة تستقر في حنكه الأيسر ويحرك يد الخلاط اليدوي حركة دائرية لا تنتهي إلا وعينه العالقة في فم الخلاط لم تعد تشاهد أثراً للقات.. ينزع يده من يدها ولا يضعها جانباً فهي مزروعة بها، يفصل فمها عن بطنها ويضعه جانباً بيده اليمنى فقد انتهت مهمته مؤقتاً ويكرر ما كان يفعله في عصر المدق، والآن يضغط على زر ضغطة واحدة لتقوم الكهرباء بالنيابة عنه وهو يدق وهو يحرك.. اختلفت الوسيلة.. انتقل عمي راجح من عصر المدق إلى عصر الخلاط اليدوي بخدعة من فعل ابنه وهو يقول له: - مبروك يا والدي فقد اخترعوا لنا خلاط يدوي للقات. كم هو سعيد وهو يتناول أول مضغة من قات الخلاط اليدوي، إلا أن ملامح وجهه أبدت عدم رضاه بعد لحظات من تناوله أول مضغة، ولكنه لم ينطق ببنت شفة حتى لا يجرح ابنه ويغيظ حزام المتشفي دائماً ويغضب من ابنه سمع من حزام بأن الخلاط اليدوي لم يخترعوه للقات ولكن لأغراض أخرى.. رد (معانداً): - وعلى عينك للقات.. وعلى عينه يستمر في التحريك حتى يأتيه ابنه قائلاً: - خلاص يا والدي، فقد اخترعوا لنا خلاط كهربائي للقات خصيصاً.. انظر ياوالدي ماأسهلها.. ربطها بالكهرباء ضغط على الزر فإذا القات طحين بدون جهد يذكر ولكن ملامح وجهه تبدي عدم رضاه وقال حزام (متشفياً): - ضحك عليك ولدك.. الخلاط الكهربائي اخترعوه للبن. - وعلى عينك للقات.. وعلى عين حزام يستمر في ضغط الزر. أتأمل عمي مستغرقاً يدس القات المطحون، اختلفت الوسيلة والغاية واحدة قال (فجأة وكأنه قد قرأ ما يجول بخاطري وأنا الذي حسبته قد تركني إلى القات): - طعم قات المدق ألذ.. تناول مضغة من القات ثم قال: - وطعم قات الخلاط اليدوي ألذ.. انفرجت أسارير وجه رجل في التسعين فبدا وكأنه قد عاد عدة سنوات إلى الوراء.. قال (مشيراً إلى المدق): - الخلاط.. الخلاط.. نظر إلى صورة ولده المعلقة في الحائط لهنية وإلى وجهي لهنية أخري وأنا حائر فيه وفيما قال ولكنه قال (بعد هنية ثالثة): - المطسة ازدادت حيرتي من المطسة وهو يسترخي على الوسادة التي استقبلت ظهره وعلى المسند الذي استقبل ذراعه ويده تداعب سعيرات ذقنه ثم قال (وأنا حائر في المطسة): - أتمنى ياولدي قبل ما أموت أن يخترعوا لنا خلاطا يكون طعهم قاته طعم المدق، ولكنه مات بعد أسبوع من تاريخه.