العنف والسلام ثقافتان من نتاج المحيط البيئي، وما كان لبعض مناطق جنوباليمن أن تشهد تخريباً وقتلاً على الهوية لولا أن حقباً ماضية غرست ثقافة سفك الدماء بمجازر بشعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً، فلم يسبق أن ذبح ما يزيد عن (11) ألف مواطن في غضون أقل من أسبوعين إلا على أيدي جلاوزة الدولة الاشتراكية الشطرية في اليمن منتصف يناير 1986م. في العام الأول من تسنم الرئيس علي عبدالله صالح الحكم في شطر الشمال اتخذت جامعة الدولة العربية قراراً بمقاطعة شاملة لنظام شطر الجنوب على خلفية اغتيال رئيسين في غضون أقل من شهرين هما (الغشمي وسالمين) رحمهما الله.. وبعد ذلك ببضعة أعوام أدرجت الولاياتالمتحدة النظام الاشتراكي في قائمة الإرهاب.. وبعد عشرة أيام من بدء أحداث 13يناير 1986م كان الرئيس علي ناصر محمد يعرض على الرئيس صالح وحدة فورية بين الشطرين مقابل التدخل إلى جانبه في حرب الإبادة الجماعية والتي كانت تدور رحاها على ساحة الجنوب, إلا أن الرئيس صالح رفض تدنيس يده بالدماء. ورغم كل المجازر الاشتراكية بحق أبناء المناطق الوسطى في أعوام التخريب ترك الرئيس صالح الحدود الشطرية مفتوحة أمام كل اليمنيين من أبناء الجنوب الفارين من مجازر الإبادة الوحشية. ولأن هناك من ترعرع في أحضان الكراهية والثقافة الانتقامية، فإنه بعد أن استأنفت لجان الوحدة في الشطرين أعمالها في 1988م فوجئ الرئيس صالح أن نظام (البيض) يطالب بطرد أبناء الجنوب الفارين في المدن اليمنية الشمالية, وبعد رفض صنعاء انتهى الأمر بتدخل أطراف عربية تطوعت باحتضان علي ناصر وبعض رفاقه، حرصاً على الدفع بعجلة الوحدة اليمنية إلى الأمام. وبين من يحمل ثقافة انتقامية دموية وبين من ينتهج ثقافة تسامحية لينة لم يمض على إعادة تحقيق الوحدة سوى عامين حتى بدأ البيض بتأزيم الأوضاع السياسية ثم إشعال حرب الانفصال 1994م التي خرج منها ورفاقه مهزومين ليعودوا مجدداً بعد نحو خمسة عشر عاماً لممارسة ثقافتهم الدموية التخريبية تحت عباءة الشعارات الديمقراطية والحقوقية مثلما كانوا في الماضي يرفعون شعارات العمالة والتخوين والكهنوتية لتبرير تصفياتهم الدموية. من يتتبع تاريخ ما كان يُعرف باليمنالجنوبي سيقف مذهولاً أنه لم يمر عليه عام دون أن يشهد تصفيات سياسية واغتيالات لعلماء الدين وسحلهم في الشوارع والهتاف (لا كهنوت بعد اليوم) فالدين بالنسبة لهم مشكلة كبرى, ليس فقط لاختلاف أيديولوجي بينهما بل أيضاً لأن الدين يمثّل ثقافة التسامح والرحمة والتآخي خلافاً للنهج الذي كان يمارسه النظام. وألفت هنا إلى أن ذلك النهج كان يمثل ثقافة النظام وأجهزته, ولا يعني بالضرورة أنه نهج الحزب كاملاً، إذ كان هناك قطاع من القوى الوطنية التحررية المتطلعة إلى حياة آمنة وكريمة لأبناء شعبها. أستحضر هذه المفردات التاريخية وأنا أتابع فعاليات لحراك الداخل والخارج في ذكرى هولوكوست 13 يناير وهم يضعون لها عنوان (التصالح والتسامح) في محاولة لإعادة تصدير ذئاب الهولوكوست بأقنعة الحملان الوديعة. ومع أن ذلك لا يمكن أن ينطلي على رجال ذلك الزمن، ولا على آلاف الأسر التي تحفظ وجوه القتلة، غير أن آلاف الشباب اليافعين ظلوا هم الضحايا الجدد الذين يجهلون حقائق التاريخ، ولا يعرف الكثيرون منهم أن الصورة التي يرفعها هي لقاتل أبيه أو أخيه أو أحد أقاربه، وهي لنفس السفاح الذي فلق رؤوس أئمة المساجد وهم قائمون في المحراب. ومع أننا جميعاً مع التصالح والتسامح ولكن ليس على طريقة ذئاب الهولوكوست التي أقامت لنفسها وليمة وكل منها عفا عن صاحبه نيابة عن أولياء الدم، فليس في العالم من يقول لسفاح: (سامحتك وجعلتك زعيمي وهذه رقبتي بين يديك)!. ولمن لا يعلم نقول: إن قادة هولوكوست 1986م اجتمعوا عام 2009م، وكان مقرراً أن يناقشوا مشروع بيان يعتذرون به لأبناء الجنوب, لكن رأي الأغلبية أجمع على رفض الاعتذار.. ربما سيبحثون عن قطيع ذئاب من خلف الحدود ويدعون أن آلاف الجنوبيين الذين فقدوا أرواحهم في 1986م أكلتهم ذئاب ذلك القطيع – كما فعل إخوة يوسف.