وجدتها لم يفاجئ الله عز وجل ملائكته بقرار استخلاف آدم في الأرض _ وإن فعل فله الحق في ذلك لا يحاسبه أحد في ملكوته يصنع فيه ما يشاء _ بل كان مقتضى الأدب الرباني «الإخبار» في أرقى صوره : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ثم يترك الفرصة لملائكته بالمناقشة والتحاور : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ) ليطمئنهم بعد ذلك بقوله : ( إني أعلم مالا تعلمون ) وكأنما هي إشارة إلى أنه سيكون هناك صمام أمان يضمن ألا يصل هذا الفساد والاقتتال إلى دمار شامل للأرض ومن عليها: ( وعلّم آدم الأسماء كلها) فكانت المعرفة هي جوهر تهذيب الإنسان ليكون مؤهلا للخلافة ومستحقا لها . ويعتبر الحوار وسيلة نقل المعرفة , وبقطعه ورفضه تغيب المعرفة , ويولد سوء الفهم وينشأ الخلاف والشقاق , وهذا ما كان يدركه الخضر عليه السلام حيث وجد أن مساحة الغموض التي يمكن أن يتحملها أي إنسان متعطش للمعرفة والفهم صغيرة جدا حتى الأنبياء يمكن أن ينفد عندها صبرهم ,مما جعله يبلغ حدا متناهيا من الصراحة والواقعية فقالها مدوية لموسى عليه السلام : ( إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) وبناء عليه فإن أصحاب الأفكار السامية والرسالات العظيمة ينبغي أن يزيلوا الفجوة المعرفية بينهم وبين الآخرين ليستمر الحوار والتواصل الإنساني , وبهذه الطريقة فقط يمكن أن نؤسس لعلاقات وروابط إنسانية تعطي للحياة بعدا ومذاقا آخر يقوم على الاحترام والتقدير مهما اختلفت الأفكار والرؤى والمعتقدات والأديان . إن الخضر حينما أزال الستار وردم الفجوة المعرفية وفسر الغموض يكون وقف بنا على قضايا إنسانية جوهرها مقاومة الظلم : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) والقضية الثانية حماية الإنسان من جبروت وصلف وتعنت أخيه الإنسان حتى لو كان من أقرب المقربين إليه : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) والثالثة حماية الحقوق بشكل عام : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما ) .بمعنى أن هناك قضايا إنسانية كبيرة يمكن أن يتفق البشر على نصرتها طالما اختاروا الأرض مكانا يجمعهم والحوار وسيلة للتخاطب مع بعضهم والمعرفة قاعدة للتعايش فيما بينهم . فواصل • نعمة كونية هو الحوار خلق آدم على مائدته وتشكلت الأرض من مفرداته ويوم أن تنسف جسوره يسود منطق : ( قد جئت شيئا إمرا ) ويقابله منطق أكثر إحباطا : ( إنك لن تستطيع معي صبرا ). • لم يعلّم الله آدم أسما واحدا ولا مجموعة من الأسماء بل الأسماء كلها وهذا يعني أمرين: المعرفة موجودة بكل تفاصيلها والتنوع من أهم مقتضياتها .