جاء الإسلام فكان مجيئه علامة فاصلة في التاريخ بين ما قبله وبين ما بعده، فكان الإسلام وكانت الجاهلية.. وعندما نقول مثل هذا الكلام فإن ذلك لا يعني أن الإسلام قام بفصل قطعي بين ما قبله وبين ما بعده، بقدرما أنه قدم نموذجاً تنقيحياً للحياة البشرية تحتذي به وتلجأ إليه ساعات الانحراف ولحظات الشذوذ عن الخط السليم. فالإسلام ليس نفياً ولا حكماً بالعدم على ما قبله، كما يتصور بعض الأشخاص والجماعات، ولكنه اتصال واستمرار لتاريخ الإنسان، وتنقيح وتصفية له مما قد يكون لحقه من شوائب وانحرافات وشذوذ. فالذي يرفض كل شيء سابق على ظهور الإسلام إنما هو بذاته إنسان غير قادر على تبين جوهر الإسلام ذاته الذي ما جاء نبيه العظيم محمد صلى الله عليه وسلم إلا «ليتمم مكارم الأخلاق»، ومعنى ذلك أن هنالك مكارم أخلاقية ولكنها ناقصة وبحاجة إلى إكمال وإتمام، فكان الإسلام وكانت الرسالة. وكما نُقل إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».. وذلك يعني أن جوهر الخير واحد، ولكن الظروف التي تحيط بمثل هذا الخير هي التي تجعل الإنسان فاعلاً أو غير فاعل، مؤثراً أو غير مؤثر. وجاء الإسلام ليغير الظروف، ويبرز جوهر الخير في الإنسان والجماعات، كي تفعل وتصنع ما أراده الخالق لهذا الإنسان على هذه الدنيا الفانية والأرض الزائلة، ألا وهو عمارتها، وتنصيب نفسه خليفة لذات الخالق على أرضه رغم تخوفات الملائكة «عليهم السلام» من شرور هذا الإنسان وحبه لسفك الدماء، ولكن فاطر السموات والأرض يعلم ما لا يعلمون: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون» «سورة البقرة، الآية 03». فرغم وجود الملائكة الأبرار الذين لا يعرفون إلا الخير، ولا يمارسون إلا التسبيح والتهليل والتقديس لاسم خالق الأكوان، فإن الخالق جل وعلا جعل له خليفة، ليس يوازي الملائكة في برهم وخيرهم وتقواهم، ومع ذلك فهو الخليفة لحكمة أرادها الخالق. ولعل في الآية التالية قبساً من هذه الحكمة التي لا يعلم كل محتواها إلا الخالق ذاته: «فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين» «سورة البقرة، الآية 152». فالهدف من خلق الإنسان في المقام الأول هو خلافة الله على الأرض وإعمارها، وليس فسادها، وبذلك تتحقق الحكمة الإلهية والغاية الربانية. من هذا المنطلق قلنا: إن علاقة الإسلام بما قبله تاريخياً، بل وما يختلف عنه في ذات المكان والزمان، «الحضارات الأخرى مثلاً»، ليست علاقة رفض قاطع ولا نفي كامل بقدر ما هي علاقة تصحيح وتنقيح لتشوهات هنا وشذوذ هناك، وإلا فان الإنسان، كل الإنسان، هو الخليفة على الأرض بصفته معمراً لها لا مفسداً. أقول مثل هذا القول وفي ذهني مقولات شهيرة لأشخاص مشهورين، يحكمون حكماً قاطعاً على كل شيء بالجهالة والجاهلية وفق قاعدة «إمَّا.. أو». فهذا يقول بجاهلية القرن العشرين بكل ما تحتويه من فكر وعمل، وذاك لا يرى على الإسلام أحداً من المجتمعات إلا فتية هنا أو هناك، وآخر يهدر دم فلان أو عرض فلان أو مال فلان بدعوى الكفر والضلال، وكلهم ينطلق من دعوى الإسلام الذي أعتقد أنه بريء كل البراءة من مثل هذه الأشياء، رغم النية الصادقة التي ينطلق منها بعض هؤلاء، ولكن النية ليست دائماً هي محل الصواب والخطأ. في حجة الوداع، خطب صلى الله عليه وسلم خطبة، اعتبرت وصيته الأخيرة لأمته.. قال البخاري في باب (الخطبة أيام منى): «حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا يحيى بن سعد، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» قال أعادها مراراً ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت، اللهم قد بلغت، فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» قال ابن عباس فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته. لقد أوردنا حجة الوداع وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وذلك لغرض محدد وهدف معين ألا وهو تبيين بعض معالم تلك الجاهلية البغيضة التي رفضها الإسلام، وكان رسالة سماوية لرفض وتغيير هذه الجاهلية التي لم يدرك البعض معالمها، فخلطوا الحابل بالنابل، وحكموا على مجمل تاريخ الإنسانية بالجهل والجاهلية.. وذاك في اعتقادي مخالف لما أرادته الرسالة الإسلامية السمحة وما عنته، إذ أن الانعزال والانعزالية ليسا من شيم الإسلام ولا من مفردات جوهره. إن جوهر الجاهلية يكمن، بالإضافة إلى أمور أخرى أقل جوهرية وإن كانت متعلقة بالجوهر الأساس المتحدث عن.. أقول: إن جوهر الجاهلية يكمن في مقولة الرسول الأعظم «عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم»: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». لقد جاء الإسلام ليصحح من مسار الأحداث في هذه الدنيا، وجاء في أرض يسودها التشرذم والتشاحن بين قبائل وعشائر يضرب بعضها رقاب بعض ويستحل بعضها أعراض البعض وأمواله، وتقوم الفتن وتسيل الدماء بين أبناء الأصل الواحد: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، لأسباب نراها اليوم تافهة وسخيفة، رغم أننا نمارسها ونعيد ممارستها لأسباب قد تختلف شكلاً ولكنها هي ذاتها جوهراً، تسيل الدماء وتتحطم الجماجم نتيجة سباق بين داحس والغبراء، أو لقتل ناقة جرباء في حرب بسوس طويلة. جاء الإسلام في مثل هذا الواقع الذي لم يكن جاهلياً كله رغم مؤشرات الجاهلية في معظمه، إذ أن هناك معالم أخرى من الخير والطريق الصحيح تبرز من خلاله، وقد حافظ عليها الإسلام رغم رفضه للجاهلية، هناك أمثلة مضيئة على مكارم الأخلاق في عصر تسوده الجاهلية، هنالك حلف الفضول وحلف المطيبين وغيرهما من أحلاف ذكر بعضها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالخير بعد الرسالة وانتصار الإسلام، وهنالك قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهما من الأحناف، هنالك أدب العرب فيما ورد من أشعار وأخبار، وكرم العرب وفروسية العرب، وحكمة اليمن، وحضارة الشام والرافدين. جاء الإسلام فما رفض كل ذلك بل واصله، ووصل ما انقطع منه، ولكنه حكم على ممارسات معينة وأخلاقيات معينة بأنها جاهلية، وبقيت بعض هذه الممارسات والأخلاقيات حتى بعد انتصار الإسلام واستتبابه، وذلك مثل العصبية القبلية ونحوها التي تجد جذورها في جوهر الجاهلية الذي نرى أنه التشرذم والتشاحن والأحقاد الدفينة، وكل ذلك يقود في نهاية المطاف إلى ضرب البعض رقاب البعض الآخر، واستحلال أعراضهم وأموالهم «لا ترجعوا بعدي كفاراً» كيف؟ بأن «يضرب بعضكم رقاب بعض».. هذا هو الفيصل في الحياة الاجتماعية بين الجهل والنور، بين الإسلام والوثنية. إن الإسلام دين حضارة وعمارة، وكيف لا يكون كذلك وهو رسالة الرب المعبود إلى الإنسان العابد الذي ما وجد على هذه الأرض في المقام الأول إلا ليعمر ويبني في مختلف الشئون ومختلف الأشياء وذلك هو لبّ الحضارة، ولأجل ذلك كان الإفساد جريمة عظيمة في حق الخالق، ومن ثم في حق المخلوق. قد نختلف وقد تتفرق بنا السبل، ولكن كل ذلك سنة من سنن الله على هذه الأرض، وهو ما قد نسميه قانون «الدفع» الذي بغيره ولولاه «لفسدت الأرض» و«لهدمت صوامع وبيع»، «سورة الحج الآية 04»..بل إن رب العالمين يقول لنا في محكم كتابه بأن هذا الاختلاف جزء من سنة الحياة ومسار الوجود الإنساني في هذه الحياة: «وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون»، «سورة المائدة الآية 84». ولأنه دين حضارة وعمارة، فإن الاسلام دين الحوار والكلمة والإقناع وليس العنف والإكراه كما نسمع في بعض صيحات هذه الأيام الشبيهة بصيحات الخوارج تلك الأيام، والصيحات المتكررة في كل وقت وحين التي ينطبق عليها قول رسول الله «صلى الله عليه وسلم» في ذي الخويصرة التميمي، واعتراضه على الرسول الأعظم، وسؤال عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» قتله: «لا، دعه، فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل، فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدم»، «سيرة ابن هشام، الجزء الرابع، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص931». أقول: إن الإسلام، بصفته دين حضارة ومؤسس حضارة، هو دين حوار وكلمة وليس دين عنف وإكراه، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.. لقد عاش «صلى الله عليه وسلم» في مكة ثلاثة عشر عاماً بعد نزول الوحي عليه أول مرة يدعو بتؤدة وصبر وإيمان عميق، رغم أن المسلمين الأوائل خلال هذه الفترة لم يصلوا إلى مائة شخص، وهو «عليه السلام» خلال ذلك لم يدعُ إلى عنف أو أعمال إرهاب، رغم أن أصحابه كانوا على استعداد لأن يفعلوا أي شيء يقوله لهم، أو يأمرهم به الرسول الأعظم، بل إن بعضهم «مثل حمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، رضوان الله عليهم»، كانوا غير راضين عن مثل هذا الوضع، فكان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يضبطهم ويحد من عنفواهم. كان بإمكان هذه القلة القليلة من المسلمين الأوائل أن تلجأ إلى العنف، ولكنها لم تفعل لأن المطلوب ليس العنف للعنف أ والعنف للإرهاب، أو العنف للثأر والانتقام، كما يحدث مع بعض الجماعات «الإسلامية» هذه الأيام، ولكن المطلوب هو بناء مجتمع جديد لا يمكن إقامته إلا باقتناع وتشرب النفوس لمبادئ هذاالمجتمع الجديد قبل أي شيء آخر. بعد الهجرة إلى المدينة وبداية تكوين الدولة بعد تكون نواة المجتمع، لم يلجأ الرسول إلى العنف إلا في حالتين: الحالة الأولى هي حالة المنع من الدعوة، وهي حالة دفاع عن الذات وعن الحرية في ذات الوقت.. وحتى في هذه الحالة فإن المسلمين الأوائل لم يلجأوا إلى العنف إلا بعد أن تكونت نواة دولة في المدينة وليس قبل ذلك، إذ رغم المنع من الدعوة في مكة فإنهم لم يلجأوا إلى العنف والإرهاب. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن المسلمين الأوائل لم يلجأوا إلى العنف حتى في حالة الدولة إلا بعد تسنفد الكلمة أغراضها، ويتبين أن المسألة تجاوزت حدود الؤقناع إلى حدود الصراع. أما الحالة الثانية فهي حالة الدفاع عن الذات عندما تكون هذه الذات محاصرة في قوتها أو حياتها، وبالتالي فلا مجال إلا العنف المفروض أصلاً وليس المختار.. بغير هاتين الحالتين فإنك لا تجد للعنف أو الإكراه «ناهيك عن الإرهاب» مكاناً في الإسلام. وأنا هناك أتكلم عن إسلام محمد «صلى الله عليه وسلم» وليس ذاك الإسلام الذي يدعيه جماعات وأفراد ما أنزل الله بقولهم من سلطان. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح لم ينتقم أو يثأر أو يقتل لمجرد القتل بل قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وأبقى مكة كما هي دون تغيير في حياتها الاجتماعية ونحوها، وذلك بعد أن أزال آثار الوثنية عنها.. وهذا ما قصدناه آنفاً عند القول: إن الاسلام دين وصل، وليس دين فصل. خاتمة القول: إن الفيصل بين الجاهلية والاسلام كما نراه إنما يتركز في مسألة جوهرية واحدة هي أن العنف لأجل العنف أوالمطامع دنيوية وأغراض حزبية «عصبية» ضيقة، أو لمجرد لفت الأنظار وإثارة الانتباه، ليس من الاسلام في شيء، وإن ادعى القائلون به، أي العنف والإرهاب، أنهم إنما يفعلون ذلك باسم الإسلام والدفاع عن حياض الدين نعم لبعض الأشخاص والجماعات تفسيرها الخاص لنصوص الدين، ولكن ذلك يبقى تفسيراً نحترمه، ولكنه ليس التفسير الأوحد ولا الفهم الافرد، إذ أن الإسلام أوسع وأعمق وأجلى من أي تفسير وكل تفسير تبقى الطامة الكبرى عندما يفرض تفسير معين على أنه هو وحده الإسلام ولا إسلام غيره.