الخشبة ليست قاعة أعراس، إنها مكان ذو قداسة، فهي صلاة عاطفة، ومنبر عبادة، وسجادة باتساع الكون، تتبنى رسالة إنسانية صادقة، قادرة على أن تخلق وعياً.. وتشكل ذائقة.. وتنبت سلوكاً، وتترك أثراً وعبرة في ذهن المتفرج..! ففوقها تلتقي الثقافات.. وتتلاقح الحضارات.. وتتعانق الأديان.. وتذوب عليها كل الفوارق الطبقية المليئة بالعقد والغُصص والمعتقدات المارقة والإيديولوجيات، التي مزقت نياط الشعوب وحصرت الإنسان قاب عزلة ضيقة اسمها العولمة..! كم جميل لو كان بإمكان كل إنسان في هذا العالم أن يصير فناناً، يمتلك إحساساً رومانسياً، ورموشاًَ شفيفة، ليخط بها على خشبة الحياة، ثم يملأها بهجة.. ومتعة.. ونشوةً منغمةً سحراً وإبداعاً وجمالاً، راسماً بأدائه الأنقى والأرقى مواويله وانفعالاته الشعورية في لوحة فنية.. تعبيرية.. وتنويرية ذات إيحاءات..وإيماءات.. وتأوهات.. وجدانية.. تلامس الشغاف.. وتسترعي الذائقة باهتمام أكثر إنصاتاً، وأوفر حميمةً..! الفن مرهون دوماً بأداء صادق الخفقان، يتجلى بروعة التقمص، وجمالية المعايشة، التي لا تترجمها غير موهبة فذة، تسكن قلب فنان ذي شاعرية فاتنة، ورومانسية أخاذة، يكون شغوفاً بإمتاع الآخر، مُمطراً عبراته وشهقاته ونبضاته في سبيل ترقية رسالته وقضيته، ليظل أبداً محباً ومحبوباً، يحيا بالفن ويناضل من أجله..! حال حضور المتفرج العادي لمشاهدة عرض مسرحي ما، فإن أول ما يصبو إليه هو التنفيس عن همومه، ومعاناته، وتلطيف أجوائه النكدية، واعتناق متعة المتابعة، والإجهاش بين فينة وأخرى بنوبات ضحكٍ حارة، وذلك لإطلاق مخزون الضحكات المتكلسة.. والقهقهات الصدئة.. المترسبة عميقاً بدواخله، فهو كثيراً ما يأتي محملاً بأعبائه وعنائه، هرباً من سطوة واقع، وجعجعة ظروف، ومهانة عيش ناتئ.. بائسِ..وقميء..! لدي نسبة فضولٍ عالية، تكمن في معرفة المسئول الحقيقي عن تشكيل ذائقة المتفرج، وتلبية رغباته الملحة، التي لم يجد حتى الآن طاقماً فنياً، وعملاًَ إبداعياً يلامسها و يتلمسها بعين الاستشعار، لذلك فإنني لا أعيب إطلاقاً على بعض الممثلين الناشئين والنشطين إذا ما أرادوا بإمكانات مادية وتقنية متواضعة أن يقدموا شيئاً، يزعمون بأنه سيحظى إعجاب الحاضرين..! بقدر ما يستفزني أولئك الهواة ممن يذيلون أسماءهم تحت لقب كلمة (إخراج )، ثم ما نلبث أن نتعثر بهم عند كل محفل أو فعالية ثقافية، وهم يجاهرون علناً بخبراتهم الفنية، وثرائهم المعرفي الذي لا يعبر أصلاً إلا عن خوائهم الداخلي المثقوب بالنقص والدونية..! - لقد أثبت لنا أولئك الهواة الموهومون بأدوار العظمة، بأنهم مجرد غوغاء ودخلاء مهنة بالفعل، إذ إن جلّ ما يهمهم هو مقايضة الفن بالمادة فقط، سبيلاً لنيل مكافأة يومية تتمثل ب (مقلى سلتة) وقيلولة هذيانية، يستغلونها بممارسة ولعة المضغ، وعادة متق لفافات التبغ، واجتراح غياب الآخرين بالتنظير والحش والنميمة السوداء.. وقبيل بصق عجينة التبلد تلك، ينهضون لأداء البروفات، وتلفيق المشاهد ببعضها، بذريعة فلسفية حقيرة، يتحججون بها دائماً، "بقدر ما تعطني، أفعل لك بحقك".. وبذلك نزداد يقيناً بأنهم ليسوا إلا مقاوتة فن، (يقطلّون) لنا أعمالاً من فئة (البزغة) أما الفن فليذهب في مهب العفن، وليمت المتفرج كمداً بحسرته، فلا مسرح بدون خبز، ولا ثقافة قبل ردم البطون .. [email protected]