في عام 1989م خرج علينا الكاتب الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما ببدعة نهاية التاريخ يزعم فيها أن الديمقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية هي أقصى ما يمكن أن يحققه البشر، وأن النموذج الأمريكي هو الأعلى. واليوم يخرج علينا كاتب أمريكي هو ريتشارد سينيت تنشر له مجلة در شبيجل الألمانية مقابلة بعنوان “إياكم أن تتبعوا أمريكا”. وحاول جنكيزخان في القرن الثالث عشر للميلاد أن يفتح كل العالم وخلال سنوات قليلة جمع ذئاب آسيا الوسطى على شكل فرق مدرعة محمولة على ظهور الخيل فاجتاح حضارات آسيا ودمر الصين واستباح بغداد وبنى منارات من الجماجم حيث حل جنوده السفاحون ووصلت فرقه العسكرية حتى حافة الادرياتيكي وموسكو. ولكن أمواج الدمار توقفت عند حافة اليابان أقصى الشرق بعواصف التيفون فانهزم قوبلاي خان بقوة الطبيعة، وانساحت فرق المغول باتجاه الغرب وبلدان العرب. وفي عين جالوت في فلسطين تم صد أمواج المغول من جديد ونجت مصر وبقية المغرب الإسلامي من الذراع المغولية البطاشة وأقام المجرم هولاكو مدمر عرش الخلافة العباسية على أنقاضها حكم الأسرة الأليخانية لمدة قرن ويزيد وسبحان مصرف الأمور ومقلب الأيام. وحاول نابليون أن يوحد كل أوروبا وزحف بنصف مليون جندي يتابع فتوحاته الأوربية حتى أسوار الكرملين وضفاف الفولجا وبرزيرينا ثم رجع بخمس وعشرين ألف جندي بعد أن أهلكهم الشتاء والثلج والذئاب والدببة وجنود القوزاق، وانقلب نابليون على عقبيه مذؤوماً مدحوراً لمن تبعه منهم. ودمر نهائيا في معركة واترلو عام 1815م وسلم الروح في جزيرة تذكر بجهنم في أسفل المحيط في عمر الخمسين عاماً مسموماً بالزرنيخ. وفي عام 1940 م كان هتلر يزحف بالقوات المدرعة فيحتل بولونيا في أربعة أسابيع، ويجتاح البلقان في 11 يوماً، ويقتل في ستالينجراد مليون إنسان ويزيد، ثم تنكفيء قواته لتحارب فوق أرض الرايخ الثالث، ويقتل في معركة برلين ثلاثة ملايين من الأنام، وينتهي في قبو الاستشارية منتحرًا مع عشيقته إيفا براون بالرصاص والسم، كلها كانت محاولات عسكرية لكسر الحدود وإنهاء خرافة الجغرافيا وتوحيد العباد بقوة السلاح. وإذا كان التاريخ لم ينته بعد فيبدو أنه قد حانت نهاية الجغرافيا هذه المرة ليس على يد الجنرالات بل على يد العلم. واستحال العالم إلى شريحة إلكترونية يتواصل الإنسان مع الإنسان في غرفته لم يبرح. والذي أوصل العالم إلى هذا الدمج الفريد هي شبكة الإنترنت فتكسرت الجغرافيا غير مأسوف عليها، وانقضى عصر المراقبة، وهلكت صناديق البريد، و«كل يوم هو في شأن، فبأي آلاء ربكما تكذبان».