في عام 1812م قفل نابليون عائداً من الحملة الروسية وقد قضى الثلج على معظم جيشه، وفي طريق العودة وعند نهر (برزينا) نسف الروس الجسر الوحيد وبدأ يلوح في الأفق وقوع نابليون أسيراً بين أيديهم مما دفع بنابليون إلى إحراق وثائقه الشخصية. وكاد أن يقع أسير الإحباط والهزيمة النفسية لولا أن رجع إلى مزاجه السابق وعزيمته المعروفة في قهر الصعاب, فأمر 400 مهندس ببناء جسرين من أخشاب جمعوها من مدينة قريبة بتحطيم البيوت. وعلى ضفاف هذا النهر القريب في صقيعه من درجة الصفر حدثت مذبحة جديدة, حيث نسف الروس بالمدفعية الجسور الجديدة مما كان يدفع بنابليون إلى ترميمها المرة بعد المرة وسقط الآلاف في لجة الماء الصقيعي. وروى من تبقى من الجند طرفاً من المأساة, وكيف انسد النهر بجثث الفرنسيين التي ملأت النهر وكانت ولائم رائعة لأسماك النهر. وأخيراً تمكنت بقية الجيش من عبور الجسر ونجا مرة أخرى نابليون ولم يبق معه سوى خمس وعشرين ألفاً من الجنود, وبذلك يكون قد أبيد معظم الجيش الفرنسي العرمرم الذي خرج للسيطرة على القارة الأوروبية ولم يرجع منهم إلا عشر معشار من خرج للفتح المبين وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب, وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وفي هذه الأثناء جاءت الأخبار لنابليون أن مؤامرة تحاك في باريس ضده لقلبه من العرش, وأن دخوله باريس بفلول من جيش مندحر ليس في مصلحته, فسارع إلى باريس كما فعل من قبل في حملة مصر عندما ترك مصيرها بين يدي الجنرال كليبر الذي تم اغتياله على يد طالب العلم السوري سليمان الحلبي في القاهرة. رجع نابليون إلى باريس وخلفه بقايا جيش محطم يجر أذيال الخيبة ومعه تبخرت كل أحلام نابليون, وبعدها بقليل تخلّى عن العرش ونفي إلى جزيرة قريبة من الساحل الإيطالي. حيث تمكن من الهرب من المراقبة البريطانية ودخل فرنسا من جديد والجماهير تحييه فقد سحرت بشخصيته وهو الذي قاد الجيوش الفرنسية إلى ساحات النصر, وهو الذي نقل مفاهيم الحرية والإخاء والمساواة إلى كل القارة, وهو الذي هدم العروش, وهو الذي أدخل الرعب إلى مفاصل الملوك. وفي عام 1815 خسر في (واترلو) - وسبحان مقلّب الأمور ومبدل الأحوال وكل يوم في شأن “وتلك الأيام نداولها بين الناس” - ونفي نابليون من جديد إلى جزيرة بعيدة في جنوب المحيط الأطلسي هي (سانت هيلانة) تحت مراقبة بريطانية مشددة, ومات عام 1821 بعد ستة أعوام وعلى الأغلب مسموماً كما ذهب إلى ذلك طبيب أسنان سويدي قام بدراسة مخلفات من خصلات شعره احتفظت بها عائلات كأرث لهم من أصدقاء لنابليون عاصروه. إن نابليون يمثّل أسطورة في التاريخ كونه أحد القلائل الذي أرقه طموح توحيد القارة الأوروبية كما فعل من بعده هتلر، ولكن أوروبا لم تتحد تحت مدفعية نابليون كما لم تتحد تحت مدرعات هتلر، ومات الأول مسموماً في جزيرة نائية ومات الثاني منتحراً. وتتحد أوروبا اليوم بكلمة السواء.