يقول أحد المحللين: “إن سيولة الأحداث وتسارعها تولد عدداً كبيراً من الأسئلة التي قد لا نستطيع أحياناً أن نجد لها إجابات فورية أو أن نحدد تجاهها مواقف قطعية يقينية”. فنحن اليوم نعيش في ظل عالم رقمي باتت الأحداث فيه تتغير بطريقة مفاجئة وبسرعة كبيرة تتجاوز أحياناً سرعة نقل الصوت والصورة عبر وسائل الإعلام المختلفة من موقع الحدث مباشرة إلى جميع أنحاء المعمورة, بصورة جعلت الأحداث تتجاوز اللحظة الراهنة إلى غيرها بسرعة جنونية تتحدى أحياناً مقدرة التحليل السياسي بوسائله وأدواته التقليدية والحديثة، وتجعله يقف عاجزاً أمام كثافة الأحداث وسيولتها وسرعة تقلبها عن ملاحقة اللحظة لتفسير ما يجري، ناهيك عن التنبؤ بما سيليها من أحداث. ولقد لاحظنا وقوف عشرات المحللين في قنوات الإعلام العربي والغربي الرسمي وغيره عاجزين أمام سيولة الأحداث عن تفسير كثير مما جرى أو يجري في الساحة السياسية العربية، وكان عجز بعضهم واضحاً عن التنبؤ بما سيؤول إليه الحدث في اللحظة الموالية.. ولعل السبب يكمن في أنهم – أو كثير منهم على الأقل – صاروا في لحظة ما جزءاً مما يحدث، أو ربما أداة من أدوات صناعته، ولذا غابت عنهم الموضوعية، والمهنية، والحيادية، وبعد النظر، والأمانة في نقل الحدث وتفسيره بعيداً عن ذواتهم كمحللين سياسيين مؤيدين أو رافضين لهذا الطرف أو ذاك.. وبدا بعضهم مندفعاً لإطلاق الأحكام والأماني المتسرعة، برحيل هذا النظام أو بسقوط ذاك، وكأنه يصفّي حساباته الشخصية مع تلك الأنظمة، كما شهدنا تبدل المواقف وتقلب القلوب مع هذا الطرف أو ضده. إن تحليل ما جرى من أحداث سياسية في كثير من مجتمعاتنا العربية خلال الأسابيع والأيام الماضية، وفي مجتمعنا اليمني يحتاج إلى حيزٍ وجهدٍ كبيرين, وهو يستحق منا ذلك لارتباطه بمصيرنا وبعيشنا اليومي، وهو لذلك يقتضي منا أن نقف على مسافة بعيدة قليلاً من أطراف الحدث حتى نتمكن من رؤية صورة المشهد من جميع جوانبها، ومعرفة وإدراك الحدث من كافة أبعاده، وتحديد حجمه الحقيقي، ودور جميع القوى الظاهرة والخفية التي شاركت في صناعته أو تنفيذه، والشعارات التي رفعها المتظاهرون خلاله، والسرعة التي تطور بها، والتداعيات التي نجمت أو يمكن أن تنجم عنه، سواء داخل تلك الأقطار أم على امتداد الساحتين العربية والإقليمية، وتأثيراته المتوقعة على مجتمعنا شعبياً وسياسياً وإعلامياً. وتلك الأمور ستضعنا مباشرة في مواجهة مع عدد من التساؤلات السابقة التي يستعصي معها الجزم أو الإجابة القاطعة تأييداً أو رفضاً لكل أو بعض ما جرى نظراً لاستمرار الحدث وسيولته، وتداخله مع أحداث أخرى داخلية ودولية، وبسبب زيادة عدد المتدخلين في صناعته، والتناقضات التي أبرزتها تلك الأحداث.. وهذا يعني أن نعتمد في تفسير ما جرى ويجري على بعض شواهد الحال، أو على التحليلات والتخمينات الذاتية، أو تصديق بعض التسريبات التي خرجت من هنا أو هناك، أو ربما ننتظر الأيام لعلها تكشف لنا ما عجزنا عن فهمه وتصديقه، وهنا سنحكم على التحليل السياسي بالجمود والقطيعة مع ما يجري، ويتحول المحلل السياسي شأن عدد كبير من الناس إلى مراقب أكثر منه محلل، بالرغم من إصرار العديد من القنوات العربية على إلصاق تلك الصفة (المحلل السياسي) على بعض من يطلّون علينا بمناسبة أو من دونها، حتى إن لم يرتق بعض من يمنحون تلك الصفة إلى أكثر من متابع أو قارىء أو في أحسن الحالات مهتم ببعض الأحداث. في البداية، يجب أن ننطلق من حسم واحدة من أكثر النقاط التي أثارت ومازالت تثير خلافاً شديداً في وسط المتتبعين والمحللين للحدثين التونسي والمصري، وهي النقطة المتصلة بالشباب المندفع إلى الساحات العامة وميدان التحرير بكل ما يحمله من معانٍ رمزية. ونعتقد أن الجدال لا يجب أن يثار حول مشروعية المطالب التي رفعت في البداية ضد النظامين التونسي والمصري، مع الفارق الكبير لواقع كل تجربة سياسية في البلدين، وتفاوت مظاهر الكبت والظلم التي مارسها كل نظام ضد مواطنيه, وهي السياسات التي أججت تلك الأحداث، وعمقت الإحساس بالحرمان والظلم، وانعدام الثقة بسياسات النظم السياسية السابقة لدى فئات واسعة من الشعب بما فيهم الشباب. ولذا فلا أحد يلوم شباب وشعب مصر أو تونس فيما قدموه من مطالب مشروعة وحقيقية، وما قاموا به من ثورة على الظلم والإقصاء السياسي وكبت الحريات الدينية والسياسية والمدنية الذي عرفته تلك المجتمعات خلال العقود الماضية، والتغاضي عن مظاهر الفساد والعربدة السياسية والحزبية، والإثراء غير المشروع لفئات واسعة من المحسوبين على الحزب الحاكم أو النظام السياسي. بمعنى أن ثورات الغضب في تونس أو في مصر بدأت بأهداف ومطالب وطنية مشروعة، لأن استمرار تلك السياسات دفعت حشوداً كبيرة من الشباب التونسي والمصري للخروج إلى الشارع للمطالبة بمعالجة مشاكل البطالة والفقر وعدم حصول الشباب على فرصتهم في الحصول على فرص وظيفية بالرغم من حصولهم على المؤهلات الجامعية العالية، وعدم مشاركتهم في صناعة القرار السياسي مع أنهم يمثلون قاعدة كبيرة من شعوب المنطقة العربية. وهي المطالب المشروعة التي رفعت في بداية الأمر، لكن تلك المطالبات امتدت – بعد دخول كثير من الأطراف الاجتماعية والقوى السياسية بفعل تطور الحدث ورغبة كثير من هؤلاء في ركوب موجة الثورة الشبابية – إلى المطالبة بالإصلاح والتغيير السياسي، ومحاربة الفساد، وإطلاق الحريات السياسية والعامة، وإعادة النظر في نتائج الانتخابات والبت في شرعية المجالس المنتخبة، وتعديل الدستور لمنع التوريث، وغيرها من المطالب الوطنية الصادقة التي استجاب لها النظام السياسي المصري في خاتمة المطاف, قبل أن تتحول الأحداث بصورة درامية إلى مطالبات برحيل الرئيس وتنحيه عن السلطة، وما حوته التظاهرات الشعبية من شعارات بعضها مطلبية وحقوقية، وبعضها الآخر رفع دون التمعن في مراميه وحقيقة فحواه, وهو ما يكشف القناع عن تورط أطراف عديدة داخلية وخارجية (ووثائق وتصريحات كثيرة أظهرت صحة ذلك) لأنها تدعو إلى إسقاط النظام، ولا أعتقد أن تلك الشعوب ترغب في العيش في كنف الفوضى (لأن نقيض النظام هو الفوضى) ولعلها قصدت الدعوة إلى إصلاح النظام السياسي وإسقاط رموز الفساد الاقتصادي والسياسي في كثير من مجتمعاتنا.. لست بصدد إلصاق تهمة التآمر على المشاركين في كثير من الأحداث التي عرفتها ولاتزال بعض الساحات والميادين العربية خلال الأسابيع القليلة الماضية، فهؤلاء أو جزء كبير منهم على الأقل صادقون في مواقفهم وفي غضبتهم وثورتهم على رموز وممثلي النظام السياسي في كثير من مجتمعاتنا، ومطالبهم تمثل الحد الأدنى من مطالب الشعوب العربية التي عجزت كثير من الأحزاب السياسية العربية عن الحصول عليها بأساليب ديمقراطية سلمية نتيجة الإقصاء أو التزوير لنتائج الانتخابات، كما رفضت بعض النظم السياسية العربية التجاوب معها أو التكيف مع حركية الشارع العربي، أو أنها تأخرت كثيراً في قراءة الأحداث، وتهاونت في تقدير قوة الشارع العربي، ولهذا تجاوزتها الأحداث فبدت غير قادرة على الوقوف أمام طوفان المتظاهرين في الشارع. لكنني أتمنى أن نقف جميعاً وقفة تأمل في سلسلة الأحداث التي جرت، والأطراف التي شاركت فيها، والأسلوب الذي تعاملت به كثير من الأطراف إعلامياً وسياسياً مع ما حدث في تونس وبعدها في مصر، وتحديد الأطراف التي لها مصلحة في وصول الأمور إلى المسارات التي وصلتها، وترتيب الأحداث بطريقة موضوعية ومنطقية لتبين النوايا الحقيقية التي يضمرها كل طرف من وراء مشاركته في الحدث، والأطراف التي سارعت إلى تلقف مبادرة النظام السياسي المصري للحوار، ومن سيجني في النهاية ثمار ما حدث، وما المكاسب الفعلية التي ستعود على الشعوب في منطقتنا. لأن الحقيقة التي يؤكدها تاريخ كل الثورات الشعبية الدينية والسياسية التي عرفتها الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة في سعيها لنيل حرياتها، والحد من تسلط الحكام، وفساد وتجبر الأنظمة، تؤكد فعلاً المقولة التي ترى أن: «الثورة يخطط لها المفكرون، وينفذها الشجعان، ويجني ثمارها الانتهازيون والجبناء» ولم لا, الأعداء، والمرتزقة؟!. وما أكثر الراغبين في قطف ثمار ما حدث في مصر أو تونس، أو ممن يرغبون في نقل الحدث إلى مجتمعات عربية أخرى حتى يصلوا إلى السلطة ولو على جثث العشرات من الشباب والثوار. «*» عميد كلية التجارة في جامعة إب