لم يستغرق الأمر طويلاً في ليبيا لتجتاحها عاصفة الفوضى، وتنهمر شلالات الدماء، فثلاثة أيام من حراك الشارع كانت كافية لتدفع بمئات آلاف المتظاهرين الناقمين لإسقاط المدن الرئيسية الواحدة تلو الأخرى وإضرام الحرائق في كل ركن فيها، في الوقت الذي ظل النظام يجتر ثقافته البوليسية، ويراهن على دوائر صناعة الرعب في لملمة أطراف سلطانه ومنع انهياره. الزعيم القذافي الذي وقف بالأمس القريب يذكي روح الثورة ضد نظامي بن علي ومبارك لم تسعفه نشوة التعالي بفرصة استلهام الدرس والقراءة المتأنية للأحداث لتفادي نفس المصير البائس، رغم أنه كان المعني الأول بتأمل ساحتي مصر وتونس؛ لكون نظامه قائماً على سياسة بوليسية تتخذ من الخوف الذي تغرسه في نفوس المواطنين ضمانة لسلطانها، وبالتالي فإن كسر حاجز الخوف باستلهام ثورتي مصر وتونس لا يعني سوى انهيار حكمه جراء انهيار موانع التمرد والهيبة المصطنعة للدولة.. حتى قبل أيام كان الاعتقاد السائد أن الفقر والبطالة هما العنوانان الوحيدان لثورات الشعوب، ولنشوء الإرهاب والتطرف، وتفشي الفساد بكل أنواعه، إلا أن ليبيا الأثرى أفريقياً، والتي لم يصل تعداد سكانها العشرة ملايين نسمة لم يكن ينقص شعبها الثروة بل الحرية والعدالة؛ إذ إن حجم الكبت الذي يقاسيه الليبيون هو الذي قادهم إلى الإمعان في الشغب والتخريب، وقاد الكثير من المسؤولين إلى تقديم استقالاتهم والتمرد والعصيان. ويبدو أن قائد ثورة الفاتح من سبتمبر لم يكن على قدر كاف من الحنكة السياسية ليستوعب حقيقة ما حدث، لذلك ظهر أمس في قصره القديم الذي ضربته الطائرات الأمريكية، كمن يحاول إنعاش الحماس الوطني، كما عاود العزف على شعارات الثورة الليبية والمؤامرة الأمريكية التي طالما كان يدغدغ بها عواطف الساحة الشعبية، في نفس الوقت الذي لم يتخل عن ثقافة الترهيب بصناعة الرعب بتجريم المتظاهرين بتهم العمالة والخيانة الوطنية والانتماء لتنظيم القاعدة، ثم تأكيد ما قاله نجله (سيف الإسلام) بشأن استعداد النظام للقتال حتى آخر رصاصة.. وكان انفعاله الشديد جداً والتخبط والتكرار في حديثه مؤشراً على سقوطه الوشيك!! إن أخطر ما تضمنه خطاب القذافي هو التحريض على الفتنة، ودعوته القبائل، وأفراد الشعب للخروج إلى الشارع ومقاتلة من وصفهم بالعملاء والإرهابيين، وهو مؤشر على عدة تداعيات قادمة أولها أن القذافي قرر اعتبار بقائه في الزعامة مسألة حياة أو موت، بما يعني أن ليبيا مقبلة على أبشع مجازر دموية، وأن القذافي قرر الانتحار بحرب عصابات أهلية تنتهي بمقتله.. وثانياً إن اشتعال حرب أهلية واستخدام النظام للقوة العسكرية سيدفع بقوتين إلى داخل الساحة الليبية هما التنظيمات الإرهابية والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وبموجب قرارات من المتوقع أن يصدرها مجلس الأمن الدولي خلال الساعات القادمة تحت مبرر حماية حريات الشعب الليبي وحقوقه الإنسانية.. نظام الزعيم القذافي لم يكن نظاماً مؤسسياً، بل إنه كان صادقاً حين قال إنه ليس رئيس ليبيا وإنما قائد ثورتها، فهو فعلاً كان يتعامل بأسلوب التنظيمات الثورية التي تتوخى السرية، وتحفظ أمنها بسلسلة مليشيات تدار كل منها بمعزل عن الأخرى، وحتى بغير علم بوجودها بجانب تعدد المكونات الاستخبارية وغيرها من الأمور التي تجعل من انهيار مثل هذه الأنظمة بمثابة انتقال إلى حالة الفوضى الأمنية والصراعات الدامية، خاصة في ظل التركيبة القبلية للمجتمع الليبي، وكذلك ارتباط نجله سيف الإسلام بتيارات إسلامية متشددة، ليس فقط على مستوى ليبيا وإنما في العديد من الدول الآسيوية. بتقديري أن الأوضاع في ليبيا تتجه نحو تطورات خطيرة للغاية قد تمثل منعطفاً في تاريخ المنطقة الأفريقية؛ فالقذافي رجل مصاب بداء العظمة، وعادة مثل هؤلاء الزعماء لا يستسلمون إطلاقاً، وعندما لا يجدون من يقتلهم، فإنهم يفضلون الانتحار على الهزيمة.. وكل ما نخشاه هو التدخل العسكري الأمريكي والأوروبي وإعادة السيناريوهات العراقية في ليبيا.. وهو احتمال كبير جداً، ويلوح في أفق أحداث الثماني والأربعين ساعة القادمة وربما أقل.