في بحر الأسبوع الثالث من شهر فبراير للعام 1998م، كنت في زيارة ل«اندونيسيا» ضمن الوفد الإعلامي المرافق لفخامة الأخ علي عبدالله صالح - رئيس الجمهورية حفظه الله بعد زيارة ناجحة لكل من ماليزيا فالصين، وكانت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بكل من “تايلاند” و«اندونيسيا»و«ماليزيا» وبعض الدول، في العام 1997م، في أوج تداعياتها. بعد يومين من وصولنا إلى العاصمة “جاكرتا” تعرفت على الشيخ صالح الجعيدي أحد رجالات الجالية الحضرمية اليمنية : المهجر والمولود في ذلك المهجر الذي استضافني في “فيللته” بضاحية “جاكرتا” وبعد وجبة غذاء حضرمية في مجملها، وعلى فنجان من الشاي الاندونيسي الأخضر، سألته أن يحدثني عن خلفية الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد ومخرجات انعكاساتها على الشعب الاندونيسي بعد نهضة وتطور اقتصادي غير مسبوق في الماضي القريب ! وما أن أتممت سؤالي، حتى تنهد الشيخ صالح وأبحر في الحديث، دون مقاطعة مني بادىء الأمر، قائلاً : كما قلت أنت، كان البلد يعيش في رخاء وازدهار، كان غنياً يمتلك من الثروات والمدخرات مايمكنه من مواصلة التنمية والتطور الوطني، إلى أن جاءت “الامبريالية” هكذا سماها بمشروع تحرير أسواق المال الوطنية، ومارست أمريكا وصندوق النقد الدولي ضغوطاً سياسية وتجارية على الرئيس “سوهارنو” لفتح البلد للاستثمارات الأمريكية والشركات عابرة القارات، والقبول بالقروض المالية قصيرة الأجل في مشاريع طويلة الأجل، فتدفق رأس المال الأمريكي والأوروبي بصورة كبيرة قبل خمس سنوات مما أدى إلى زعزعة مكانة “المصرف المركزي الاندونيسي” وتجريده من مقدرة التحكم بالكمية النقدية المتداولة، صمت هنيهة ارتشف خلالها رشفتين من فنجانه ثم استطرد قائلاً: قلت لك حدث تدفق هائل في رؤوس الأموال في الوقت الذي ارتفعت معدلات الفائدة المصرفية على القروض الممنوحة وبالعملة الوطنية حقنا “الروبية” مما أدى إلى تضخم مالي كبير لم يشهده البلد من ذي قبل وماهي إلا ثلاث أو أربع سنوات من ذلك التاريخ ويعني به العام 1992م حتى انتبه المستثمرون الأمريكيون وأصحابهم في الجابان وأوربا إلى هذه المخاطر تعمدوا إلى الهروب برؤوس أموالهم بشكل مفاجئ الأمر الذي فقدت معه العملة المحلية قيمتها أمام الدولار الأمريكي خلال فترة قياسية وبنسبة 75 % في العام الماضي ويعني به العام 1997م وهو العام الذي كشف جحيم الأزمة الاقتصادية في اندونيسيا وتايلاند وماليزيا. وعندما صمت مرة أخرى ليرتشف الشاي، قلت له: يالهول الكارثة صباح هذا اليوم أي 20فبراير 1998م - صرفت 100دولار ب ثمانمائة آلاف روبية بما يعادل ثمانية آلاف روبية للدولار الواحد!! فأمسك بيدي وهو يبتسم في أسى قائلاً: قبل مجيئكم بشهر وصل سعر الصرف للدولار الواحد إلى عشرة آلاف روبية أي مليون روبية للمائة دولار حقك. قلت له: وماسبب هذا التراجع؟ فأجابني قائلاً: هذا ما يسميه صندوق النقد الدولي بالإصلاحات المدعومة من قبله، فقد منح اندونيسيا في العام الماضي 13مليار دولار قرضاً عاجلاً من إجمالي ما اعتمده لها ومقداره 23مليار دولار دفعها قبل يومين، فأحدث هذا التعزيز الطفيف للعملة المحلية، ولكن هذا القرض الممنوح في العام الماضي، والمستكمل جزءاً مما تبقى منه قبل يومين خصص أصلاً لإنقاذ أموال المستثمرين الأجانب وفي مقدمتهم الأمريكيون. قلت له: هذه المقدمات والأسباب فماهي التداعيات والعواقب؟ أجابني وهو يصب لي الفنجان الرابع من الشاي الأخضر، قائلاً: بل هذا بداية المقدمات بعدها جاء دور صندوق النقد الدولي ويسمونه الحضارم هنا «حشرة الدوباس» أتعرفها؟ قلت: أي نعم، إنها حشرة لعينة تفتك بالنخيل إذا غفل المزارعون عنها، انشرح صدره بعض الشيء مخففاً عنه الآسى وقال: بارك الله فيك على هذا التعبير.. ثم استرسل قائلاً: جاء دور الصندوق بتعليمات أمريكا ليفرض شروطه على أندونيسيا، وأولها أنه لابد من إجراء إصلاحات اقتصادية في مقدمتها على الحكومة أن تطبق برامج تقشف غريب من نوعه، وهو إلغاء الدعم الحكومي للمواد الغذائية الرئيسية، وأيضاً رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وتقليص سقف الرواتب الحكومية يعني افقارنا، وكذلك خصخصة القطاع العام ويعني زيادة البطالة بين الشباب، وآخرها رفع معدلات الفائدة إلى الحد الذي يجهز معه على أي نمو اقتصادي في أندونيسيا..هنا رن جواله ، فاستأذن وطلب مني إغلاق المسجلة ففعلت وكان المتحدث صديقاً عزيزاً عليه، فهمت ذلك من لهجة ترحيبه به، بعدها التفت إليّ وهو يعوذ بالله ثم قال: هذا صديقي من “سوكابوما” محافظة تبعد عنا بحوالي “120” كليومتراً،أخبرني بخروج مظاهرة كبيرة بعد صلاة الجمعة لعمال مصنع الغزل والنسيج وهو قطاع عام..ألم أقل لك إنها بداية الاضطرابات؟! (15) ألف عامل وعاملة صدمهم خبر عزم الحكومة على خصخصة المصنع الكبير، فتظاهروا لمنع هذه الكارثة التي سترمي بنصفهم إلى الشارع، وتحولت المظاهرة السلمية إلى فوضى عندما اعتدى الأمن على المتظاهرين فسقط من بينهم قتلى وجرحى، ولا يزالون يتظاهرون احتجاجاً على قطع أرزاقهم. أطرق هنيهة، ثم رفع رأسه ليأخذ شهيقاً عميقاً علّه يخفف ما بصدره من حزن وقلق أثناء الزفير، وأشار إليّ بأن لا أفتح«المسجلة» فقد اكتفى بهذا الحديث، ثم تماسك وقال: أتمنى ألا يمر اليمن بهذه المشكلة التي حدثتك عن بداياتها وتداعياتها فهي تهدد استقرار هذا البلد وتفكك لا قدر الله من وحدته الوطنية، وتوقظ الفتن، وتفتح المجال أمام الجهاديين المتشددين عندنا، وفي الأخير تفكك هذه الدولة الأندونيسية ناضل أجدادنا الحضارم منذ زمن طويل لتحرير أرضها وتوحيدها..وقال وهو يودعني إلى بوابة حديقة منزله حيث تنتظرني سيارته الخاصة:كل هذا ياصديقي من أمريكا ونظامها الدولي الجديد وآلتها الجهنمية “حشرة الدوباس” قاتلها الله ، فهي لن تترك أي دولة أو أمة نامية إلا وافترستها وأخاف أن يأتي الدور على الدول العربية لا قدر الله..تابع هذه الليلة التلفزيون سترى في نشرة الأخبار المتحدث بإسم الإدارة الأمريكية يطالب الحكومة الأندونيسية بضبط النفس وبرفض العنف ضد المواطنين، وإدارته هي رأس كل البلاوي التي جرتها على هذا البلد الطيب الذي يطلق على محافظته«سوكابومي» وتعني بالأندونيسية “جنة الله على الأرض” فهل ستبقى في المستقبل اسماً على مسمى مع هذا الجحيم المنتظر؟! أدعو لها ولنا كما نحن ندعو لحضرموت واليمن كافة بأن يجنبها ويجنبنا شرور وويلات هذه الإمبريالية اللعينة..ثم أشار بيده مودعاً.. ذكرني بذلك الحديث الصادق للشيخ صالح الجعيدي، والذي مرت عليه ثلاث عشرة سنة وبضعة أيام من الآن،ما جرى ويجري من أحداث مؤلمة في عدد من البلدان العربية بما فيها بلادنا اليمن، حيث اختلط الحابل بالنابل في الشارع السياسي العربي إثر تعتيم الرؤية وتشوش الأفكار وتهييج المشاعر الحماسية لدى الشباب من دون أن يعي أن وراء كل ذلك النظام العالمي الجديد الذي جاءت به الليبرالية الغربية اللاأخلاقية الجديدة، وحاميته الإدارة الأمريكية التي طبقته بحذافيره على الأنظمة والحكام والشعوب مستخدمة آلتها الجهنمية«الصندوق» حتى إذا ما استنفدت مآربها من هذه الأنظمة وتلك الحكومات رمتهم بدائها وانسلت، لتظهر من جديد في ثوب المتعاطف والمدافع عن فوضى وحماس الشباب للتغيير، ليسقط من تختاره بعناية من الأنظمة والحكام في الوطن العربي والعالم وهو لا يدري أنه سيكون ضحية هذه الأفعى في قادمات الأيام. قال الشاعر: أيها المارون بين الكلمات العابرة أحملوا أسماءكم وانصرفوا واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا..أنكم لن تعرفوا (محمود درويش) [email protected]