سيدخل يوم الخميس 20 مارس 2003م في سجل التاريخ أنه أحد أيام الجنون البشري, فقد قصفت الصواريخ الأمريكية يومها المدن العراقية, وبدأ السجال بين صنفين من الرجال لا يوصفان بالعقل, وتمنيت أن يفوزا بجائزة نوبل للسلام لو نسي أحد الطرفين نفسه وأعفى سجله من قتل آلاف الناس. وفي يوم كان في يدي عصفور صغير وللحظات أمسكت به وهو ينقر إصبعي فاختنق فأصبت بحزن كبير عليه وكيف لم انتبه إلى هشاشة الحياة. ولكن يبدو أن الإنسان عميق الجدل وتتنازع فيه كما يقول فرويد غرائز الحياة والموت ما يسميه الليبيدو والتانتوس. والعرب أيام الجاهلية كانوا يتحاربون جداً وبسبب ودون سبب وبسبب تافه ولثأرات سخيفة وحرب البسوس مشهورة وفي حرب داحس والغبراء كادت العرب أن تفنى, وكان اندلاع الحرب شيئاً يومياً, وعندما جاء خبر مقتل كليب وكان أخوه يحتسي الخمرة قال اليوم خمر وغداً أمر. وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت الجماهير تزعق في الساحات العامة إلى برلين إلى باريس ولم يخطر في بالهم المسالخ البشرية التي تنتظرهم ويموت في معارك السوم لوحدها مليون ومئتا ألف بين ألماني وبريطاني وفرنسي. وفي خنادق الحرب العالمية الأولى استعملت الغازات السامة للمرة الأولى ومات منها أكثر من مليون إنسان وبأشنع الميتات. وفي يوم بدأ التمرد بين قطعات الجيش الفرنسي من عبثية الحرب والموت بالجملة فبدأ الضباط في إنشاء المحاكم العسكرية الميدانية وقتل الجنود بأحكام فورية. فهذا هو مفتاح الحرب: “إنها الأوامر” فالجندي يدرب على نظام ملعون أنه يجب أن يطيع في الطاعة والمعصية وعلى الأوامر, ولو بقتل أقرب الناس إليه.. وبتدريب الجندي على الطاعة غير المشروطة تقتل عنده أهم مزاياه وتقتلع منه الإنسانية اقتلاعاً بقتل ثلاث: الاستقلالية والتفكير والإرادة فهو يصبح قطعة من مجموع على شكل مطرقة لحمية جاهزة للضرب لأي كائن وفي أي وقت مثل أي آلة بكبسة زر من أمر عسكري. وهو لا يفكر لأن الفكر يعني النقد, وهذا خطير في الجيش, فيجب أن يسلم عقله مع حذائه المدني منذ اللحظة الأولى في دخول القوات المسلحة, وتقتل عنده الإرادة حيث تجتمع إرادة كل القطعة العسكرية مختزلة في إرادة الضابط الواحد.. ومن ثم يصعد هذا المرض الملعون لفوق فتختزل إرادة مجموع الضباط في إرادة الجنرال ومجموعة من الجنرالات بيد فرد وحيد. وهكذا تساق الشعوب إلى المذابح, وهكذا تندلع الحروب, وجيوش الأنبياء غير جيوش الشياطين, فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا. وبداية الحرب يمكن أن يدخلها جميع الناس ولكن نهايتها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو, وحرب عام 1860 بين الأورغواي والبارغواي أدت إلى فناء معظم شعب الدولة الأولى بسبب الديكتاتور الذي تربع على رقاب العباد. ومنع الحرب ممكن وضروري وأخلاقي ممكن لأنه يحدث ليس كزلزال لا نعرف منه سوى قوته بوحدات الريختر, ولكن يبدو أن الجنون البشري أشد من زلازل الأرض. ومنع الحرب ضروري لأن فيها سفك دم الإنسان لحساب آخرين, وأخلاقي لأن الإنسان في الحرب يتحول إلى وحش فيقتل دون أن يحاسبه أحد وبالقدر الذي يستطيع من الأعداء, بل يمنح ميدالية بطولة على عدد من قتل. وأيام الفرعون توحتمس كان البطل يجدع الأنوف ويصمل الآذان ويقطع الأيادي من القتلى لينال جائزة عند فرعون على بطولته ولم يتغير الأمر كثيراً. ومنه نفهم استفسار الملائكة رب العزة عن سر خلق الإنسان الذي يفسد فيها ويسفك الدماء, والشاهد أنها سألت عن القتل أكثر من الكفر, لأن القتل هو قمة الكفر.