كان حديثه في غاية التهذيب وانخدعت به, كان يطلب مني كتابة مقالة في مجلة دورية, وفعلاً خصصت له وقتاً وكتبت بحثاً قصيراً متماسكاً, والكتابة في الواقع مهمة لذيذة وشاقة، وإنها ليسيرة لمن يسّرها الله عليه. والتحدّي في الكتابة أنك لا تستطيع أن تكتب كل ما يجول في رأسك, وهذا الواقع قد يكون ليس عربياً فقط، فلكل مجتمع حرماته، وإن كانت الهوامش في العالم العربي أضيق. وفي يوم حاولت بعض الفتيات في كندا أن يخرجن عاريات الصدر في الشارع, فألقى البوليس القبض عليهن, ليس لأن العمل له علاقة بالحرية أو التقييد، بل لأن هناك حرمات لكل مجتمع لا يمكن تجاوزها. ونحن عندما نستحم نخلع كل ثيابنا، ولكننا عندما نخرج من بيوتنا نلبس كل ثيابنا، والسبب أن هذا أصبح قطعة من الثقافة، ولذلك يقول القرآن عن اللباس “إنه لباس التقوى ذلك خير” فهنا اجتمع اللباس مع التقوى؛ لأنه ترميز عجيب للثقافة أكثر منه جنساً. وعندما تكشف المرأة عن ساقها أو صدرها قد لا يفعل هذا شيئاً لرجل من قبيلة بدائية في غينيا الجديدة أو قبائل استراليا البدائيين ونيوزيلندا، وهم في الواقع عراة أو شبه عراة، ولكن هذا في مجتمع مدني يعطي رموزاً وتأشيرات جنسية خاصة، وهو في مجتمع مغلق أدعى إلى الإثارة منه في مجتمع مفتوح. ومعروف أن أكثر الأماكن انتشاراً للانحراف الجنسي السجون والسفن والبيئات الدينية المتشددة مثل الأديرة وما يشبهها, ونحن في البيئات الإسلامية غير الناس في ألمانيا أو فرنسا “ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه, فلا ينازعنك في الأمر, وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم”. ومن هنا قال القرآن: “تلك حدود الله فلا تعتدوها” ويظن بعض الناس أن هذا ربما خاص بمجتمع دون آخر، ولكن الصحيح أن الكوابح أو التقاليد والأعراف وما تواضع عليه الناس موجود في كل مكان. ويروى عن بريطاني أنه زار الصين فلفت نظره أن الناس يأتون بقدر من الطعام فيضعونه على قبر الميت في نهاية الأسبوع, فضحك البريطاني منهم وكاد أن يمسك بطنه من فرط الضحك، وقال: “عجبت من أمركم يا قوم, وهل سمعتم أو رأيتم أن الأموات يقومون من قبورهم فيتناولون وجبات الطعام من فوق طبقة التراب؟!”. أجابه صيني نبيه: وأنتم يا معشر البريطانيين, هل سمعتم أو رأيتم أن ميتاً نفض الكفن والتابوت ثم قام يشم باقة الزهور التي تنصبونها فوق قبره؟!. والحاصل هو أن كل قوم يرون أن ما عندهم هو أفضل من كل ما في يد العالم أجمع, وكل قوم يحيون الآخرين بطريقة مختلفة، وفي بعض مناطق الصين يحيي الناس ضيوفهم بإخراج اللسان، ولو فعلوها في وجه آخرين لظنّوها سخرية أو دعابة غير محتملة!!. وأرجع إلى ما بدأت به مقالتي, فقد حرصت أن أكتب في ميدان لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً، وحرّمت على نفسي ساس ويسوس فلا أكتب في السياسة, وأقول إن هذا طريق مليء بالألغام. ثم حرّمت على نفسي فلا أتحدث في قضايا دينية مع أنني متخرج من كلية الشريعة وحافظ للقرآن للكريم, وهذا ليس للدعاية, بل لطمأنة قلوب البعض, وقلت إن هذا الباب حساس وخطير والزلل فيه لا سماحة فيه وعذر. ثم حرّمت على نفسي ثالثاً ألا أتحدث في موضوع المرأة وما قرب إليه؛ لأن الخطأ فيه مزدوج, فأولاً يجب أن يتحدث في موضوع المرأة امرأة، وثانياً هذا الموضوع مفرط الحساسية والغلط فيه قاتل. مع كل هذا فعندما قدّمت للأخ الفاضل المقالة فوجئت أنه حرّف الكلم عن مواضعه، وغيّر في كلامي, قلت هذا فراق بيني وبينكم, فهذه بعض من قصصنا نحن من يكتب في أخطر شيء “الكلمة”.