كغيري من أبناء هذا الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج الذين استبشروا خيراً بميلاد قناة الجزيرة في 1 / 11 / 1996 م بأن تكون قناةً للتنوير وتصحيح المفاهيم المغلوطة ونشر قيم الخير والمحبة وثقافة الحرية والديمقراطية، وإيجاد مساحة واسعة للرأي الآخر الذي ظل مكبوتاً على مدى عقودٍ خلت والمساهمة في نشر الوعي الجمعي المُطالب بالتغيير السلمي وعدم احتكار السلطة بين أيدي طبقة معينة، بالإضافة إلى مناصرة قضايا الأمة الرئيسية ومواجهة الصلف الصهيوني والغطرسة الغربية المتآمرة على تلك القضايا.. بالتأكيد لقد أبهرتنا هذه القناة بإمكانياتها الهائلة وكوادرها المؤهلة وجرأة تناولها لقضايا لم يكن أحدٌ يجرؤ على طرحها أو مجرد التطرق إليها حتى استحوذت على نصيب الأسد من وقت كل إنسانٍ مُهتمٍ بقضايا أمته . ولا اخفي أننا أحببناها حد العشق والولع بها وببرامجها وأصبحنا ندافع عنها حينما تتعرض لأدنى انتقاد وكأنها منزهة عن كل عيب. لكن وكما يقال (يا فرحة ما تمت) فمنذ سنوات و«الجزيرة» تتدحرج نحو الهاوية وتفقد مصداقيتها وتعرض مهنيتها للانتهاك المدروس والمنظم بعد أن تسلل إليها الكثير من الكوادر أصحاب الاستراتيجيات التي لا تؤمن إلاّ بنفسها ورؤيتها عن طريق فرض تلك الرؤى والأفكار بشتى السبل، حتى كشفت عن وجهها القبيح وبدأت في استغفال العقول وتمرير مخططاتها بصورة أو بأخرى، إلاّ أنها في الفترة الأخيرة لم تستطع أن تتمالك نفسها فتفلتت أعصابها وأضحت تتخبط هنا وهناك ورمت شعارها الزائف (الرأي والرأي الآخر) والمهنية والموضوعية خلف ظهرها ودخلت مرحلة الثورية والتثوير دون النظر إلى عواقب الأمور والكوارث التي يمكن أن تخلفها تلك السياسات العدوانية حتى لو تقطعت أوصال العرب إلى ألف قطعة .. لم تكتف هذه القناة بالكذب والتضليل والانحياز لطرفٍ دون آخر، لكنها تعمّدت أن تكون طرفاً رئيسياً فيما يجري في الوطن العربي، فعمدت إلى التزييف واختلاق المواقف والأخبار واصطناع الأحداث بصورة تظهر للقاصي والداني مهما كانت ثقافته.. الكلام كثير وكثير عن هذه القناة وأكاذيبها وأجندتها الخطيرة التي تمزق النسيج الاجتماعي للبلدان وتثير الفتن وهي تعلم جيداً من المستفيد الوحيد من وراء هذا التشرذم والانجرار نحو الحروب الداخلية بعد أن كان الضمير العربي قد استفاق من غفلته وبدأ في استعادة الثقة بنفسه وتشكيل نظرته نحو المستقبل.. لم أجد وصفاً ولا تشبيهاً يليقُ بهذه القناة ومن يديرُها ويُحركُها أبلغ من أنها قد تجاوزت العهر السياسي بمراحل متقدمة وأصبحت تتلذذ بمشاهد الدماء التي تسفك والبلدان التي تدمَّر والشعوب التي تتناحر وتتقاتل فيما بينها .. ظنّناهم دعاةَ وحدة وحرية وديمقراطية وأصحاب قضيةٍ جميعُنا نتمنى أن نراها وقد أعيدت لأصحابها، لكن سبحان الله هاهي الأيام كفيلة بتعريتها وفضح زيفها وادعاءاتها.. كُنَّا نعتبر من كان يشكك في صدق نواياها ونقاء توجهاتها قبل سنوات بأنه جاهلٌ لا يفقه من أمور السياسة شيئاً وها هي نبوءاتهم تتحقق على أرض الواقع وتتجلى في أبهى صورها .. كنا نعتقد مع الأسف أن الكذب لا يعرف طريقاً إلى عقول كوادرها وضمائرهم، وسرعان ما نراهم يكذبون جهاراً نهاراً يدلسون، وتعمدون التزييف والتلفيق والتضليل بمنتهى الوقاحة.. فقدنا الثقة في كل من حولنا لأننا كُنَّا نرى فيهم مثالاً أعلى للصدق والنزاهة والمهنية والموضوعية، بل لقد تجاوزنا ذلك بمراحل حتى أننا تعلمنا منهم الأساليب غير اللائقة في خطابنا الإعلامي بسبب استغراقهم في استخدام الألفاظ النابية التي لا تليق بأي صحفي أن يقولها.. كنا نعتقد أن الجوع والفقر والفاقة التي عانى منها الكثير من منتسبيها في طفولتهم ستدفعهم لإحياء ضمائر القادة والمسؤولين في أوطاننا كي يلتفتوا إلينا ويصلحوا أحوالنا، فإذا بنا نفاجأ أن الدولارات الفتنة قد أفقدتهم مشاعرهم وأحاسيسهم وأجبرتهم على المتاجرة بدماء الناس وأعراضهم وقيمهم وأغلى شيء يمتلكونه وهي بلدانهم..أُصدقُكم القول : إننا لم نستوعب حتى هذه اللحظة الصدمات التي سببتها لنا مهنيتهم الزائفة وغدرُهم بأبناء جلدتهم مقابل إرضاء شوفينية ونرجسية أولياء نعمتهم الذين يخيرونهم بين تنفيذ أجندتهم وإرضاء غرائزهم وبين حفنة الأموال المدنسة التي يسترزقون منها.. أخيراً .. نقول لهم : كفانا تلذذاً بدماء الناس وأشلائهم .. أرجو أن تخاطبوا ضمائركم علّها تعود إلى رشدها وتتقي الله فيما تتسبب فيه من إزهاق للأرواح وتفكيك للبلدان.. [email protected]