تولد الآلام والأحلام ثم تموت كما يولد البشر ثم يموتون، غير أن أعمار الأحلام والآلام ليست كأعمار البشر قصيرة، تولد الآلام وتعيش معمرة حتى تصل إلى مرحلة الخرف وهناك تضيع الذاكرة ويستفحل الألم ولايموت إلا بموت صاحبه، لكن الآلام تبعث بعد نفاد الأرواح لتستشري في أجسادٍ أخرى وهكذا. بين الألم والحلم سماوات وأراضين لأن كلاهما مخلوق ليصرع الآخر.. إنما الأحلام ذات عمرٍ قصير ولهذا لامجال للتنافس بينها وبين الآلام والنقائض لاتجتمع إلا في المعجزات. هناك شراكة غير مربحة بين الآلام والإنسان لأنهما توأم ملتصق لاينفصلان أبداً أحدهما مرئي شكلاً ومعنى والآخر لانعرف عنه إلا معناه.. الأحلام ترفع البشر إلى السماء ثم تهوي بهم إلى الأرض حيث تتلقاهم الآلام في تزاوج شفاف بين الآلام والأحلام، الحلم لايوسد صاحبه الثرى لكن الألم يفعل ذلك راضياً، وحين يموت البشر موتتهم الصغرى كل ليلةٍ في ظل الأحلام تتغشاهم الآلام في عالمهم الآخر لترسم أقدارهم القادمة من عالم التماهي والسكون. كلنا يتألم، وكلنا يحلم، وكلنا يستعد للانشطار أمام لحظة حمل الشعلة، شعلة الحلم الذي تحقق رغماً عن الألم.. يستطيع الإنسان أن يستنكف ذاته ليقنعها بإمكانية استمراء الألم كمراودة عابثة ليعيش الحلم كحدث فريد يمكن أن يغير مسار حياته. الأيام مزيج ذائب من الآلام والأحلام يمكن أن يحتسيه الإنسان مراراً وتكراراً دون أن يفكر بحالة الجمود التي تلي استسلامه للحياة مترنحاً ثملاً بما يهديه إليه قدره، والعجيب في أمر هذه الدنيا أن الأحلام يمكن أن تكون وليدة الآلام وأن الآلام لابد أن تكون بمعية الأحلام وكما يقال: إن المنح توهب مع المحن، وفي الوقت الذي نكون فيه ساخطين أمام أقدارنا غير راضين عن نصيبنا المحتوم منها يكون في ذلك غذاءً دسماً لرغباتنا لكن دون أن نشعر، إنما يبقى كتاب الحياة مفتوحاً دائماً لنتعلم من الأحزان والآلام مالم نتعلمه من الأفراح والأحلام. نولد فتودعنا أرحام أمهاتنا ونموت فيودعنا رحم الحياة ليمنحنا للأرض.. موتى! لكن البشر منحتهم السماء قدرة على المزج والتلوين والتشكيل ليتمكنوا من تذوق حلاوة أحزانهم ومرارة أفراحهم! نحن نستطيع أن نصنع بأيدينا قوالب الأحلام والآمال، شطرنج الأفراح والأتراح، فسيفساء الحزن والمرح.. نعم بأيدينا أن نفعل ذلك لكن الخوف والقدرة المحدودة جداً وفقدان الشركاء الجيدين يمنعنا أن نفعل ذلك. فلسفة الحياة والركض خلف منطق السعادة يفرض علينا أن نبحث عن أقصر الطرق التي توصلنا إلى ذخيرة روحية عالية لانحتاج بعدها للتزود بوقود الآخرين مهما بدت حاجتنا إليهم ملحة، ولأنهم مثلنا تماماً يقتنصون الفرص فلن يكون هناك من يفقد ظله أبداً. في صدر كل إنسان يوجد ميزان يستطيع أن يرجح كفة الألم والأمل أمام كفة الإيمان القاصر الذي يظهر حيناً ويختفي حيناً آخر تماماً كما تظهر هذه السحاب ثم تختفي. وهذا الميزان هو من يثقل مساحات الحزن في داخلنا بشعور اليقين ويملأ فراغ الهلع بإحساس الطمأنينة ويجافي جنب القنوط عن مضاجعنا ولو بات يدثرنا بالفضول. الآلام والأحلام عملة الحياة وبها نشتري دموعنا وابتساماتنا وبها نبيع شكوكنا وظنوننا وسطوة تطفلنا على أنفسنا وطبيعة البشر الراكنة التي تسري عبر أوردتنا.. بيننا وبين أفراحنا وأحزاننا، وأحلامنا وآلامنا شعرة واحدة لاتنقطع أبداً وهي الإيمان، ذلك النور الذي يضيء تجاويف قلوبنا من الداخل ويمنحنا سماتنا المتألقة من الخارج وهو الشيء الوحيد الذي لانملك أمامه من أمر أنفسنا شيئاً إلا ماشاء الله، إنه لحظة التجلي والظهور أمام القدر، وهو اليد الخفية التي تدفع بنا إلى تشييع اليأس عن دنيانا المتوهجة بالحبور إلى عالمٍ مجهول منازله مدافن وحجراته قبور.