ليس هناك ماهو أكثر مغالطة لنفوسنا من أن نجيد صناعة الفشل بالاستحضار الدائم لكثير من الأعذار والأسباب الواهية التي نستعيرها لتسويغ تقصيرنا في ماينبغي أن نخلص له الجهد والطاقة لأنه جزء من مسؤوليتنا في إنجاح الحياة وضرورة فاعليتنا فيها. فالغربيون يلاحظون عشق الإنسان العربي لثقافة الهروب والتنصل من المسؤولية بأعذار قد تكون أقبح من الذنوب- كما يقال- ولكن كيف الخلاص منها عند من يبحث عن مطيّة سهلة للتواكل والكسل وتمرير المسؤوليات سواء على المستوى الوطني أو العلمي أو الوظيفي أو المهني أو غيره؟. أما الإسلام فإنه بعيد كل البعد عن هذه الثقافة كيف لا وهو الدين الذي جاء يحض على الجد والإخلاص والشعور بالمسؤولية نحو أنفسنا ونحو مجتمعنا, بل وحرص على أن تمتزج هذه القيم بالإحساس بالأمل حتى في وقت قيام الساعة وانقطاع أسباب الأمل بالحياة«إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» مع أن المكان هنا «يوم ترجف الأرض والجبال, وكانت الجبال كثيباً مهيلاً» لكنه درس نبوي عظيم في ضرورة مجانبة التعلل بالحجج الواهية للتنصل عن أداء المسؤوليات. ونحن اليمنيين لنا حكايتنا مع هذه الثقافة التي كثيراً ماارتبطت بشخصية هذا الجيل, وقد حدثنا عن ذلك أعضاء البعثات العلمية الجامعية العربية إلى اليمن منذ السبعينيات إذ لاحظوا أن الطالب اليمني يمتلك قدرة كبيرة على الفهم لكنه يقصّر في أداء مايكلف به من واجبات علمية, ويُكثر تبعاً لذلك من امتطاء ظهر«العذر» لمنطقة هذا التقصير وتطبيعه, وهذا أميل إلى أن يخلق منه شخصية تواكلية متراخية تتعلق بالقشّة لإخلاء المسؤولية وتسويغ الفشل. وما أكثر الأعذار في حياتنا اليوم.. فبها نؤجل إنجاز الأعمال, وبها نشرعن للتقهقر والتراجع أو للجمود والثبات عن خط معين أو عدم مجاوزته إلى خط الإبداع أو صناعة النجاح من رحم الهزيمة كما صنعت اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. ولتنظروا- مثلاً- في قضية المقررات الدراسية لهذا الفصل الدراسي في ظل الأحداث التي يشهدها الوطن ثم مجيء زمن الامتحانات, فالطلاب اليوم أحرص على أن يكون الامتحان مفصلاً على مقاس ماتم أخذه في الحصص الدراسية حتى وإن كان المدروس موضوعاً واحداً فقط, ونحن قد نعذرهم في ذلك بما يتعلق بالعلوم التطبيقية, لكن ليس من الصحيح أن نعذرهم إذا ماتعلق الأمر بالعلوم النظرية لأن الأصل في التلمذة أن يقرأ الطالب ماتحت يده من معارف لأن الكتاب وعاء حافظ للمعرفة, وهو معلّم صامت, وهو أبرز الوسائل التعليمية أو الوسائط التي تكملها وسائط أخرى التي منها المعلم والوسيلة التوضيحية. نحن نعلم أن المعرفة التي يكسبها الطالب بنفسه كثيراً ماتكون معرفة منقوصة, ولكن الأصل في حالة ذهاب الشيء كله أن لايترك كله كما تقول الحكمة, فقد كان الأحرى للمتعلمين الجامعيين ومادونهم ألا يتركوا فترة الانقطاع والتقطع في الدراسة خلال هذه الأشهر الماضية تذهب هدراً, إذ لابد أن يكون المجتهد النشط قد استثمرها في تعليم نفسه بأنه يقرأ المكتوب ويحاور النصوص ويهضم مافيها من معانٍ وأفكار, ولكن للأسف فهذا مما ليس مقدوراً له أن يحدث عندنا, فلا عجب إذا سمعت طلاب اليوم يقولون: إن أذهانهم في هذا الفصل الدراسي لاتزال فارغة ويتحججون بأن هذه الظروف لم تسعفهم في الحصول على قدر كافٍ من التعليم, ولذلك تشيع بينهم فكرة أنه مالم يتناوله المعلم أو المحاضر فلا حاجة لهم به, وقد سمعت هذا بنفسي من بعض طلابي الذين أدرسهم في الجامعة وأنا أتناقش معهم في قضية الامتحانات حتى تفاجأت في آخر المطاف بأن الامتحان وفقاً لأطروحاتهم يكاد أن يكون في موضوع واحد من الكتاب المقرر!! وهنا أصل لأقول: ينبغي أن يكون للمتعلم دور في أخذ المعرفة لاسيما في مثل هذه الظروف التي انقطع فيها الطلاب عن الذهاب إلى المدارس والجامعات, إذ لابد أن يمتلك الطالب الدأب على الاطلاع وقراءة الموضوعات واستشفاف المعاني والدلالات منها وهو بذلك يصنع المعرفة بنفسه ويكتسبها بجهده, ولاينبغي سوق الأعذار المكرسة للخمول المعرفي وترك القراءة أو غيرها من المظاهر المندرجة في إطار ثقافة الهروب والتنصل التي ابتلينا بها اليوم للأسف بالرغم من أنها ليست من ديننا, وليست من تراثنا وموروثنا الثقافي والحضاري, بل على العكس فنحن نجد في موروثنا مايشنع الركون إلى الوهن والتواكل والتملص من أداء الواجبات واستحضار الأعذار لذلك.