الأيام العشرة التي تلت أحداث الثالث عشر من يناير الدموية لعام 1986م مثلت ذروة الفشل السياسي لتجربة الجنوب اليمني، وكانت بمثابة صدمة للمُلْتبسين بالتجربة، ومن يعاضدها دولياً، حتى أن الاتحاد السوفيتي أعاد ترتيب نظرته الأساسية تجاه تجربة الجنوب اليمني الاستثنائية في كامل المنطقة العربية، وبالمقابل واجه قيادات الحزب الاشتراكي اليمني سؤالاًً جوهرياً يتعلق بتركيبة الحزب وكيفية تفسير المآلات الدموية للخلافات التي تنشب داخله. كان جار الله عمر من أوائل الذين انبروا لهذا السؤال، وكان المتفرد بالبوح بإجابة شافية كافية لم تكن مقبولة من قبل الجامدين ايديولوجياً، وقد سعى جار الله بكل السبل لتوصيل رسالة ناجزة مفادها أن التعددية الداخلية في الحزب الاشتراكي هي المخرج الوحيد والحاسم لتفادي إنتاج ماحدث في يناير، وقد سعى حثيثاً لتوصيل هذه الفكرة إلى فرقاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، ولكنه أيضاً راهن بصورة أخص على القيادات الشابة والمتنورين واصحاب الثقافة العالمة، وقد مثل ذلك الحراك التفاعلي القلق مُقدمة هامة لمرئيات ما بعد أحداث يناير، حيث خرج الأمر من نطاق التداولات الداخلية الحميمة الى فضاء الكتابة المُعلنة، وذلك إثر ندوة تمت بصورة تلقائية وشارك فيها جار الله عمر وفواز طرابلس ومحمد كشلي وأدونيس وعبدالواسع قاسم ومنصور هائل وكاتب هذه السطور. في تلك الندوة التي انعقدت في عام 1986م انبرى جار الله عمر للإجابة على السؤال المركزي في الحزب معتبراً أن التعددية السياسية هي المخرج من التنافي المُتبادل والصراعات العدمية، وقد كان هذا الرأي ثقيل الوطأة والنتائج على رجل يحتل موقعاً متميزاً في قيادة الحزب، لكن جار الله شاء أن يكون أول قيادي اشتراكي يختار درب التعددية قولاً وفعلاً، وهوالأمر الذي شكل صدمة عند بعض رفاقه على درب التجربة، لكن البعض الآخر كان مستوعباً لموقف جار الله. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر علي سالم البيض ويحيى الشامي وحسن شكري وسيف صائل. لقد ثبت لاحقاً أن ذلك الخيار الصاعق الذي أطلقه جار الله لم يأتِ من فراغ، بل من مُقدمات حوار متعدد الأبعاد كان يديره مع أبرز قيادات الحزب الاشتراكي اليمني . نشرت تلك الندوة كاملة في مجلة «قضايا العصر» التي كانت تمثل المرجعية الفكرية للحزب الاشتراكي اليمني، ويترأسها الراحل الاستاذ عبدالواسع قاسم، وأعيد نشرها مختصرة ومُصحّفة في جريدة «صوت العمال» التي كان يدير تحريرها الاستاذ محمد قاسم نعمان . يومها قامت قيامة اليساريين المدرسين الجامدين، لكن جار الله واجه الموقف بشجاعة استمدت قوتها من رفاقه الحزبيين الذين كانوا يؤمنون برؤيته، وهكذا مرت العاصفة بسلام على المستوى الشخصي ، لكنها كانت الأساس الذي انْبنى عليه موقف الحزب الاشتراكي بعد الزيارة التاريخية للرئيس علي عبدالله صالح والتي سبقت إعلان الوحدة . لقد تبنّى الحزب الاشتراكي اليمني فكرة التعددية السياسية لدولة الوحدة، بناءً على التأصيل المفاهيمي الواسع الذي قام به جار الله عمر، ومن هذه الزاوية أستطيع القول بكل ثقة أن جار الله هو صاحب فكرة التعددية السياسية لدولة الوحدة، تلك التعددية التي خرجت من تضاعيف الأنين والألم الشاملين في شمال وجنوب الوطن، ثم توالت نسقاً وانتظاماً طوال سنوات الاغتيال السياسي للمستقبل، وإلى يومنا هذا ، لكنها وبالرغم من كل المتاعب والمحاصرات والمعاناة أينعت، وستثمر في المستقبل المنظور، لنعرف أن الشهيد جارالله عمر كان يرى البعيد قبل القريب، ويراهن على الاستراتيجي قبل الآني. [email protected]