انبثقت من أحشاء السديم كما لو أنها إشارة في فراغ، والتبسته في حياته اليومية كما يختلط النار بالنور، فسافرت به إلى مرابع مجهولة كادت أن تحيل الحلم إلى واقع، والواقع إلى خيال، وهكذا تداعت بهما الأيام دونما تخطيط مُسبق، ومترادفات ذهنية هائمة. عرفها على حين فجأة من الدهر، ولم يكن يمتلك من أمره شيئاً، فهو المخطوف من ذاته بذاته، حتى أن كل المعادلة اختصرت واقعياً في معرفة خيطية عابرة، لكن الأمر لم يكن صُدفة، فقد كانت إرادة الحب اللاهث فوق كل الاعتبارات، كجواد جامح يمضي إلى غايته، وهكذا وقع المسكين فريسة لقلبه وقلبها، وسارت الأيام تباعاً كما لو أنها حلم مسطور . امرأة الذاكرة هذه جمعت خصالاً، وحاصرت قيماً ومعاني، وكانت نموذجاً للانثى السادرة في نرجسية تفيض حد الاحتياط، وإصرار يمخُر عُباب الأمواج والمحيطات، وحالة تتسامى على معطيات الواقع والعاديات . خاضت معه حروباً فكرية وعاطفية، وتدحرجت معه في مدى الأيام وخُضرتها الشبحية، وأذاقته ألواناً من الضنى المعجون بالنعيم، وشاءت أن تكون مُعادلة مركزية في خياراته وأيامه الممزقة، وحاولت ترميم شظاياه المتناثرة بين الكتب والمكاتب، لكنه كان أوهى من المباراة .. أضعف شكيمة، وأقل قدرة على مبارزة من يُشهر لكل لحظة سيوفها، ولكل مقام مقالة، ولكل شاردة تفاصيلها .. كان صغيراً بحجم إدراكه، مُتعباً بقدر رؤيته الواسعة، وحائراً بقدر أحواله المترعة بالأحمال والأثقال . قال لها ذات يوم : إنني أضعف من أن أمتشق حُسام المعاني التي تفيض من هذه العلاقة ... قالت له : وداعاً فأنت لست لها !. بعد حين استعاد الذاكرة واسترجع في ومضة خاطفة من لطائف الزمان والمكان .. استرجع ما كان وما سيكون، فأيقن أنه كان أمام امرأة وفيّة لعبقرية الأُنثى .. جامحة كالخيول البرية .. ومُقيمة في مرابع قلق مستديم لاينتظم إلا بالاشتعال حد الفناء . أيقن أنها كانت رسولاً وهبة واصطفاءً ، لكنه كان أوهى وأضعف من الحمل الثقيل . والآن أثبت الدهر دهاء الأيام، وعاد مجدداً ليقرأ ماكان وما سيكون، ووقف على نصوصها وأحوالها البارقة كومضة في دُجى الليل البهيم، وتساوق مع أنوار فيوضاتها حتى دنا فتدلى، كمن يحيل القُرب بعداً ، والفراق دنواً ، فعرف أنها كانت متوارية وراء سديم من عماء .