دولة المؤسسات والمواطنة المتساوية ... دولة الانعتاق من قبضة العسكر ومغامرات العسكر ... البديل الحضاري لدولة القبيلة.. وقانون الفيد .. وسلطة العائلة ... تلك هي الدولة المدنية التي يحلم بها شباب ساحات وميادين الحرية .. وقد أصبحت مطلباً مجمعاً عليه من كافة قوى التحرر الفكرية والسياسة في اليمن وفي عالمنا العربي عموماً ، عدا بعض الأصوات السلفية التي تسمع من هنا وهناك معارضة أو متحفظة.. ! ومع احترامنا وتقديرنا للتيار السلفي التجديدي ، ولكل الأصوات السلفية الواعية والمستوعبة لمقاصد الشرع وروح العصر .. لكن تبقى بعض الأصوات السلفية وكأنها تعيش خارج عصرها ، وغير مبالية بنتائج مواقفها وتصريحاتها.. ومن ذلك موقف بعض رموز السلفية من الدولة المدنية ، ففي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات في الوطن العربي مطالبة بالدولة المدنية كحل ومخرج تأريخي لهذه الأمة من أزمتها الطويلة والمستحكمة مع دولة القبيلة ، ودولة العائلة ، ودولة العسكر ، ودولة المحسوبية والفساد ، تأتي بعض التصريحات السلفية المخيبة للآمال لتعلن رفضها للدولة المدنية بحجج وهواجس يغيب عنها الفقه السياسي الرشيد .. والمتأمل في الخطاب السلفي يجده يعلن على الدوام أن الشعوب المسلمة لن ترضى بغير الإسلام، ولا يمكن أبداً أن تتخلى عن دينها ، أو تتنازل عن قيمها ، ولكن هذه الثقة المطلقة بالشعوب المسلمة سرعان ما تتبدد وتتلاشى حين يبدأ التيار السلفي بسرد مبرراته لرفض الديمقراطية والدولة المدنية ، إذ نسمع منه القلق والخشية من أن تؤدي الديمقراطية إلى استبدال أحكام الشريعة بقوانين وضعية ، والخوف من أن تكون الدولة المدنية مفضية في مآلاتها إلى خيارات تتناقض مع أحكام الشريعة ! وهكذا تنسف الثقة بالأمة لمجرد أوهام وهواجس ومخاوف لا حقيقة لها ، وقياسات باطلة تحاول أن تقيس المجتمعات الإسلامية بغيرها من المجتمعات الغربية. إن الديمقراطية التي يحق للتيار السلفي ولسائر خلق الله التخوف منها ورفضها هي ديمقراطية ال 99.9% .. هي ديمقراطية تزييف وتزوير إرادة الشعوب ، أما الديمقراطية الحقيقية والدولة المدنية المنبثقة عن الإرادة الشعبية فلا مبرر أبداً لرفضها ، ولا معنى للخوف منها إلا الخوف من الشعب ذاته ! وإنه لمن المهم جداً لمستقبل التيار السلفي التجديدي أن يتعامل مع أدبيات الفكر السياسي المعاصر بمرونة وانفتاح ، وأن يركز على مواطن الاتفاق والإيجاب ، وأن لا يشغل نفسه بالفرضيات النظرية ، وأن ينظر إلى الإمكان الواقعي ويتعامل معه وعلى أساسه ، وأن يترك الإمكان الذهني والنظري جانباً ولا يشغل نفسه به ، وأن يستغل قدراته التأصيلية في تبيئة المصطلحات السياسية واستيعابها ضمن منظومة القيم الإسلامية وتوظيفها بما يخدم قيم المجتمع ومصالحه العليا ، وهي مهمة يمكن للتيار السلفي التجديدي أن ينجزها على خير وجه لو استرشد بالفقه المقاصدي ولم ينكفئ على ذاته ، لكن مشكلة البعض في التيار السلفي أنه يتعامل مع المصطلحات السياسة بعقلية ( الفقيه ) ولغة ( العقيدة ) ، وتبعاً لذلك فهو يريد مصطلحات كاملة وصحيحة مائة بالمائة ولا غبار عليها أو حولها ، ولا تشوبها شائبة ، ولا تحوم حولها شبهة! وهيهات ... هيهات .. ! فالفكر السياسي برمته هو فكر بشري ، وليس وحياً إلهياً ، وليس له تنزل واحد في واقع الناس ، ولكنه يتنزل في كل بيئةٍ وبما يتناسب مع مكونها الاجتماعي والثقافي ، فلا يمكن فرض قوالب فكرية جامدة ، ولا استنساخ تجارب جاهزة ، وهذا ما أصبح يدركه كل العقلاء بما فيهم عقلاء التيار العلماني في الوطن العربي. إن استيعاب المصطلحات ذات المضامين والأبعاد الحضارية وتوجيهها بما يتلاءم مع عقيدتنا وواقعنا ويخدم مصالحنا هو ما ينبغي أن تتوجه إليه بوصلة التفكير السلفي بدلاً من افتعال المعارك واستنفاد الجهود في غير طائل ... والأمر بحاجة إلى أن يلتفت مشايخ التيار السلفي التجديدي لهذه القضية ويعطوها ما تستحق من التأصيل والتقعيد كمقدمة ضرورية ولازمة للعمل السياسي ، فلقد فاجأت التطورات الأخيرة التيار السلفي في مصر فاقتحم معترك العمل السياسي وحقق نجاحاً لا بأس بها في الانتخابات تحت مسمى ( حزب النور)، ولكن جاءت تصريحات المتحدث باسم الحزب لتعكس تراجعاً سياسياً ، وأزمة فكرية يعيشها التيار السلفي في تعامله مع أدبيات الفكر السياسي المعاصر ، فقد أكد المتحدث باسم الحزب محمد نور أن التيار السلفي يرفض بشكل كامل مصطلح الدولة المدنية الذي يعني العلمانية ! وقال : إنه لا صحة لما نشرته إحدى الصحف من أن السلفيين يقبلون بدولة مدنية معتبراً أن ذلك يأتي في إطار التشويه لموقف حزبه ! وكان يجدر بالمتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي وبأعضاء حزبه أن لا يقفوا كثيراً عند ( عقدة المصطلح ) ، وأن يتجاوزوا الألفاظ إلى المعاني ، المعاني الممكنة والواقعية ، لا المعاني الافتراضية ، ولهم أسوة في الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يفرض الجزية على نصارى العرب من بني تغلب ، فأبوا وقالوا : نحن عرب نأنف من أداء الجزية ، ولكن خذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض [ يعنون الصدقة ] ، فإن جعلت الجزية علينا لحقنا بأعدائك من الروم ! فأخذ عمر منهم الجزية باسم الصدقة كما أرادوا ولم يصر على مصطلح الجزية ، وأقره الصحابة على ذلك ! وقال لهم عمر : هذه جزية فسموها ما شئتم ! كان بإمكان المتحدث باسم حزب النور السلفي في مصر أن يقول بخفة دم المصريين المعهودة : نحن نريد دولة تعبر بصدق عن هوية وإرادة وتطلعات الشعب المصري ، دولة تقوم على العدالة والحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان ، وأنتم سموها ما شئتم دولة مدنية أو حتى مهلبية ! لكنه أبى إلا أن يتقمص دور المحارب في معركة من معارك طواحين الهواء .. معركة لا تقدم ولا تؤخر على أرض الواقع شيئاً .. والحقيقة أن حزب النور السلفي قد خسر كثيراً على المستوى الإعلامي والسياسي بعد إعلانه رفضه للدولة المدنية بحجة أن البعض يقصد بها العلمانية ، وجعل القوى السياسية الأخرى تتوجس من توجهاته بما في ذلك حزب الحرية والعدالة المنبثق عن الإخوان المسلمين. إن الدولة المدنية في مفهومها السياسي هي: الدولة التي مصدرها الشعب ، أي أنها تقوم على مبدأ سلطة الشعب في أمر حكامه : تولية ورقابة وعزلاً ، فالحاكم في الدولة المدنية لا يستمد سلطته من الحق الإلهي المزعوم ، ولكن من اختيار الناس ، والبعض هنا ربما تحفظ على الدولة المدنية لأنها جاءت في سياقها التاريخي كرد فعل مضاد للدولة الدينية ، وهذا التحفظ لا معنى له ؛ لأن الدولة الدينية التي قامت ضدها الدولة المدنية هي دولة الطغيان الكنسي ، الدولة التي كان يقدس فيها الحاكم وتمتهن فيها الشعوب وتصادر حقوقها باسم الله ، وهذه الدولة لا وجود لها في الإسلام ، وليست من الإسلام في شيء ، بل إن الإسلام يعتبرها لوناً من ألوان الوثنية السياسية. وإذا كانت الدولة المدنية تتعارض مع دين الكنيسة ، ومع الدولة الدينية ( الثيوقراطية ) فهي في جوهرها لا يمكن أن تتعارض مع الإسلام ، بل يمكن القول إن الدولة المدنية تحقق مقاصد الإسلام السياسية العليا ، وتمثل مبادئه وهديه في الحكم أصدق تمثيل ، وكلنا يتذكر خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة : ((أيها لناس إني وليت عليكم وليست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني )). إن الإسلام يرفض كل صور التأليه للحكام ومن ذلك جعلهم فوق المحاسبة والمساءلة ، فالله تعالى وحده في العقيدة الإسلامية هو الذي لا يسأل عما يفعل : (( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون )). فجوهر الدولة المدنية إذن وأساسها موجود في الإسلام ، وما تهدف إليه الدولة المدنية من العدالة والحرية والمواطنة المتساوية ، هي قضايا أساسية تمس حياة الناس ، ولا يمكن القول: إن الإسلام قد أهمل هذه القضايا أو وقف منها موقفاً سلبياً .. وأما التحفظات التي يبديها البعض على الدولة المدنية كالتخوف من العلمانية أو من استغلال مصطلح الحرية أو المساواة فيما يتعارض مع الشريعة الإسلامية ، فمع احترامنا للقائلين بهذه التخوفات والتوجسات ، لكن تخوفاتهم لا محل لها من الفقه السياسي ؛ لأن الدولة المدنية في ظل دستور ينص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريعات ، هي دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بموجب هذا النص الدستوري الواضح .. ثم إننا نتحدث عن دولة مدنية تنبثق عن الشعب ، وتعبر بصدق عن إرادة الشعب ، وليس عن إرادة قبيلة ، أو أسرة ، أو حزب ، أو جماعة ، وبالتالي فلا مبرر لتلك التخوفات ، وبعبارة أخرى فإن ما ينبغي أن نخافه ونخشاه جميعاً هو الاستبداد والتسلط .. هو تأليه الحكام .. هو الحكومات العسكرية الغاشمة .. هو دولة القبيلة والحزب ، وليس الدولة المدنية. [email protected]