الفرق بين الآلية المزمنة والمبادرة الخليجية يتطابق تماماً مع الفرق بين العقل الأوروبي والعقل الخليجي؛ الآلية جاءت مدروسة وذكية ومدركة للوضع اليمني وأبعاده واحتياجاته، وكانت بمثابة خارطة طريق واضحة المعالم للوصول إلى نقل السلطة كمرحلة أولى، يليها برنامج متكامل للتعامل مع تحديات اليوم التالي، وخصصت لها مرحلة انتقالية معقولة سنتين. بينما كانت المبادرة الأم استجابة مبدئية للثورة، ولكنها وضعت في صياغة عشوائية لمطالب ارتجالية أملى إطارها صالح في لحظة انعدام وزن وبحث عن منفذ للنجاة ليس إلا. الآن ونحن نقف على مسافة 21 يوماً من موعد نقل السلطة في اليمن، ماذا تبقى من بنود الآلية لهذه الفترة؟ وما هي الاستعدادات أيضاً لبرنامج اليوم التالي الذي حددته الآلية نفسها، ويشمل مؤتمر الحوار الوطني حول الدستور الجديد والحلول الممكنة للقضية الجنوبية ومشكلة صعدة، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وبقية التفاصيل التي يقال دوماً: إن الشيطان يكمن فيها. تحدد الآلية مسار التسوية السياسية وتحكمه خلال المرحلة الانتقالية التي قسمت إلى مرحلتين، تنتهي الأولى في 21 فبراير بانتخاب الرئيس الجديد، وتمتد الثانية لمدة عامين، ومهمتها الأساسية صياغة الدستور الجديد في سياق مؤتمر حوار وطني، تشارك فيه جميع الأطراف، ويكون معنياً بالنظر في جميع القضايا، وتنتهي المرحلة الانتقالية الثانية بانتخابات رئاسية تنافسية وفقاً للدستور الجديد. وخلال هاتين المرحلتين تعتبر الآلية مرجعية وطنية معتمدة دولياً، ولا يحق لأحد الطعن فيها أو الاعتراض عليها أمام الهيئات المحلية. لجنة التواصل: تعتبر لجنة التواصل من ضمن الهيئات المنصوص على تشكيلها من قبل الحكومة، ولم تشكل حتى الآن، وأجّل إنشاؤها للمرحلة الثانية.. مهمة هذه اللجنة التواصل مع حركات الشباب من جميع الأطراف وباقي أنحاء اليمن لشرح تفاصيل الاتفاق وخطواته وحشد التأييد له وإطلاق نقاش مفتوح حول مستقبل البلاد، يمهد للحوار الوطني الشامل عقب الانتخابات، وإشراك الشباب في تقرير مستقبل الحياة السياسية. ويلف الغموض قرار الحكومة بتأجيل إنشاء هذه اللجنة، خصوصاً مع الحاجة لدورها في مد خطوط الحوار والتواصل مع جميع الأطراف والساحات للتهيئة للانتخابات الرئاسية أولاً، وتحفيز الجميع للبدء في إعداد تصوراتهم لمهام ما بعد 21 فبراير التي تحتاج إلى مشاركة فعالة من كل أطياف المجتمع وفعالياته السياسية والمدنية والشبابية والنسوية. فجدول أعمال الحوار الوطني مناط به صياغة عقد اجتماعي جديد وبناء إجماع وطني يستند إلى إرادة اليمنيين لاختيار الدولة التي يرتضونها والمرجعية العليا الحاكمة لها “الدستور”، وتأسيس قواعد الوظيفة العامة للخدمة المدنية، والنظام الانتخابي، وغيرها من المهام التي تؤسس للحياة السياسية والعامة وفق منظور جديد سيعرض في نهاية المطاف على الشعب ليقول رأيه فيه في استفتاء عام. اللجنة التفسيرية: كان مفترضاً أن تشكل هذه اللجنة؛ لتكون مرجعية في حال نشأت خلافات حول نصوص الآلية، ويبدو أن الحاجة لتشكيلها لم تعد قائمة بعد أن أنجزت أغلب خطوات المرحلة الانتقالية الأولى، والتي أظهرت أن الآلية صيغت بعناية وإلمام نأياً بها عن تضارب التفسيرات. اللجنة العسكرية: هناك مهام أنجزتها هذه اللجنة بنجاح نسبي، غير أن المهمة الأساسية لها لازالت على الطاولة..هذه المهمة الكبرى والأساسية تنص عليها الآلية كما يلي:”إنهاء الانقسام في القوات المسلحة، وتهيئة الظروف، واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق تكامل القوات المسلحة تحت هيكل قيادة مهنية ووطنية موحدة في إطار سيادة القانون”. وهي مهمة تمتد في المرحلتين الأولى والثانية، وهذا معيار أساسي ليس فقط لنجاح اللجنة العسكرية بل لنجاح المرحلة الانتقالية إجمالاً.. فمهمة الرئيس القادم عبدربه منصور هادي ليست رعاية التعايش بين الجيش المؤيد للثورة والوحدات المسيطر عليها قسراً من بقايا النظام، بحسب ما يتحفنا به محللون متحذلقون يرتب ظهورهم بعناية على بعض الشاشات، وعوضاً عن ذلك تبرز المهمة بوضوح وإلحاح: توحيد الجيش اليمني وتحريره من الإرادة العائلية ووضعه تحت إمرة الإرادة الوطنية بعد إعادة هيكلته. وما تسارع انهيار القيادات العائلية أمام احتجاجات منتسبي الوحدات العسكرية من الجنود والضباط إلا دليل واضح على الحاجة الملحة للإسراع في إنجاز هذه الخطوة. يحتاج اليمن إلى مؤسسة عسكرية وطنية موحدة، وطريق هذا المطلب الوطني يمر بتحرير الجيش من الهيمنة العائلية التي سقط نظامها بالثورة السلمية الكبرى للشعب اليمني. لم يعد بمقدور منتسبي الجيش اليمني احتمال المزيد من الهيمنة والغطرسة من قبل مخلفات النظام التي حولت مؤسسات الجيش إلى إقطاعيات شخصية. يبدو هذا أكثر من واضح في تسارع انهيار قبضة بقايا النظام والانتفاضة في القوات الجوية والبحرية وغيرها. ولم يكن غريباً أن يعمد قادة عسكريون وأمنيون إلى استدعاء أبنائهم على رأس كتائب إقطاعية عسكرية لأحد الأقارب لقمع المحتجين من أبناء اليمن المنتسبين لمؤسسات يفترض أن تكون وطنية وليست إقطاعيات شخصية، وبعضهم استدعى مجاميع قبلية للسيطرة على إدارة أمن عام، وآخر استدعى أقاربه ومجاميع قبلية من محافظته إلى المحافظة التي يتولى فيها منصباً عاماً لقمع المطالبين برحيله، وكأنه سفير لقبيلته وليس مسؤولاً عمومياً.. هنا تبدو مؤسسات الدولة في القطاعين العسكري والأمني وكأنها أملاك شخصية خاصة مثل أي أرضية أو عقار. المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية: سيكون مناط بمؤتمر الحوار الوطني إنجاز الإطار العام للمصالحة الوطنية، أما العدالة الانتقالية فبرنامجها واضح ولها مرجعياتها الدولية وإطارها العام الذي يهدف إلى جبر الضرر، وإنصاف الضحايا وفق خمس خطوات: المحاسبة، التطهير “الإصلاح المؤسسي”، الاعتراف، التعويض، تخليد الذكرى. وإذا كان انتقال السلطة يتم عبر الانتخابات، فإن انتقال المجتمع من وضع الاستبداد إلى وضع الديمقراطية يمر عبر برنامج العدالة الانتقالية التي تهدف إلى نقل المجتمع من وضع إلى وضع بعد تحريره من مظالم المرحلة السابقة.