واضح تماماً أن الكرملين مازال يقرأ التداعيات التراجيدية في سوريا من خلال ثقافة الحرب الباردة، والإصرار المُمْعن على احتساب أجندة الولاياتالمتحدة ومن يتحالف معها افتراضياً، ودونما عناية بما يجري فعلاً على الارض. فالتجاوزات التي سجلت على نظام دمشق لاتحتاج إلى أدلة وشهود، واختيار النظام للحل بالقوة الأمنية المجردة والاستباحة الواضحة للمحتجين امر لا ينقصه البرهان . ومنذ البداية ظهر جلياً أن الأجندة الإصلاحية للنظام السوري لا تعدو مجرد كلمات فضفاضة أقرب إلى الديماغوجية السياسية منها إلى المصداقية، والشاهد أن المستشارة المباشرة للرئيس بشار الاسد كانت قد قدمت خطاباً مبكراً فاض بسلسلة من الوعود الاصلاحية «المُبْهرة»، لكن أول حديث للرئيس السوري بشار الأسد أعاد الأمور إلى نصابها، مُقدماً الدليل القاطع على أن ما قالته بثينة شعبان بلسان النظام أمر غير قابل للتطبيق. والتخريجات التي لجأ إليها الأسد الإبن وهو يكرر قهقهات الاستهتار بالحراك الجماهيري .. كانت أقرب الى الفذلكات الكلامية، كقوله«نحن مع السرعة لا التسرع» ، وأشارته إلى أن مصفوفة الإصلاحات الافتراضية تتطلب تشاوراً واسعاً، وتأصيلاً قانونياً.. ما يعني أن هذه الاجراءات لابد وأن تتناسب، بل وأن تتفصّل على مقاسات النظام الذي يتحرك في ثلاثية «الله .. سوريا .. بشار.. وبس!!» تماماً كالنظام الليبي الذي رفع قبل سقوطه المريع شعار « الله .. معمر .. ليبيا .. وبس» وهكذا تفعل بقية الأنظمة الاستبدادية التوتاليتارية التي عفى عليها الزمن . في هذه الأنظمة تتماهى المجردات مع الملموسات، والمعقول باللامعقول ، والأدنى بالأعلى، والدين بالسلطان، والوعي بالهستيريا، فيصبح فيها المصطلح السياسي فاقداً لمعناه، قائماً على الأوهام والميتافيزيقا السوداء. هنا تصبح الأنظمة هي البلدان، فالنظام هو التاريخ والجغرافيا والوطن !! ، والرئيس هو التعبير الأقصى للإنسان الكامل الذي يكاد يفقد ناسوتيته ليصبح صنماً، فهو قرين الله والوطن، وهو التعبير عن حالة مفارقة لنواميس الوجود ومقتضياته. قلنا إن روسيا قرأت المشهد من زاوية منفرجة توصل الحال بالتحديات التي ورثتها من الحرب الباردة، وبالتالي.. فإن المراقبين الروس ظلوا يرون المشهد على قاعدة التداعيات المحتملة لفترة ما بعد الفوضى، وهم بطبيعة الحال يرفضون نظرية الفوضى الخلاقة الأمريكية، ويعتبرونها فوضى حقيقية وغير خلاقة، ولهذا السبب تنبأوا قبل حين بأن ليبيا مابعد القذافي لن تكون أفضل حالاً من افغانستان الراهنة، وهكذا ينظرون للأمر من الزاوية السورية . من البديهي أن تصطدم التوقعات المستقبيلة بما يمكن أن تمثله الحالات الثورية الانقلابية من نزعة مثالية وحلم طوباوي بمجتمع ألفي فاظل قد لا يتحقق بسهولة، فما يجري على الأرض لا يمكن اختصاره بوحدة القوى التوّاقة للتغيير، فهذه القوى قد تختلف بأسرع مما نتوقع، لكن هذا لا يمنع من الإقراربأن ما يجري في المنطقة العربية نابع من حقائق موضوعية صنعتها الأنظمة الخائبة، وخرْسنتها بكل أسباب التفجُّر والتفجير، فالنظام الليبي السابق مارس أفظع صنوف الإستباحة لأحلام وآمال وأماني الليبيين، حتى أصبحت الحرية بالنسبة لهم سفراً نحو جنان الخلد، وهذا ما حصل في أُفق آخر في سوريا المقرونة باسم رئيسها على غرار الممالك التاريخية القديمة المندثرة . القراءة الروسية للحالة العربية المتحوّلة تتلخّص كما أشرنا في زاوية تنفرج على الصراع العالمي المتجدد، فالذاكرة السياسية الروسية مازالت تقرأ المشهد على مستويين متوازيين : المستوى الأول يتّسق مع امكانيات الحوار وتعظيم العلاقات مع الولاياتالمتحدة على قاعدة المنفعة المتبادلة، والمستوى الثاني ينطلق من اعتبار أن الولاياتالمتحدة مازالت تقيم في منطق القطب الواحد، وترى في روسيا العقبة الكأداء أمام طموحاتها الامبراطورية العالمية، وبالتالي.. فإن على روسيا أن ترى في كل شاردة وواردة ظلالاً أمريكية، وتحالفاً أطلسياً يستهدفها . ومن هذه الزاوية بالذات جاءت القراءة الروسية للمسألتين الليبية - السورية، على قاعدة النظر للوجود الامريكي الأطلسي الذي سيحيط بالخاصرة المتوسطية والجنوبية لروسيا ومن يحالفها، والنظر إلى أن التبعات الاقتصادية المباشرة لن تقتصر على تقليص وجود السلاح الروسي فحسب، بل الوجود الروسي الاستراتيجي برمته . هنا بدت الصورة متضببة، ووقع الكرملين في وهدة كان يمكنه تجاوزها، خاصة وإن هذه التحولات العربية لم تأتِ بإيعاز أمريكي أوغربي ، بل بإرادة جماهيرية شبابية نابعة من مقدمات لا تخطئها العين الباصرة . [email protected]