معظم الناس يعتبر أن غرفة النوم هي للنوم، وهذا نصف الحقيقة فيمكن أن يجعل الإنسان حصة من قراءته لوقت ما قبل النوم فينام على الكتاب، وأهميته أنها تذهب إلى اللاوعي فتشحنه بالفكر، وعلى الإنسان أن لا ينسى وضع قلم وورق بجانب رأسه لتسجيل الأفكار المنهمرة فجأة، وابن الجوزي وضع كتابا بعنوان (صيد الخاطر)، وزوجتي رحمها الله كانت زينتها وحليتها في الدنيا كتابا وكتابا مسطورا في رق منشور والقلم وما يسطرون، ولقد هضمت أنا العديد من الكتب في فترة ما قبل النوم، وهي نصف ساعة رائعة؛ فحاول مران نفسك على تشكيل هذه العادة الحميدة. وهناك أناس يضعون بدل الكتاب التلفزيون فيطير النوم ويسهرون ويمرضون لأن نوم كل ساعة قبل منتصف الليل تعادل اثنتين بعده، وفي العادة فإن الفيلم المثير ينتزع النوم من الأجفان؛ أما الكتاب فعلى كتفه الرخية برفقة ضوء ناعس يعطي الفكر تدفقا في الدقائق الأولى ثم ينزع الإنسان إلى النوم. لذا كان على القارئ النهم وضع حصة من القراءة بجانب المخدة؛ فيقرأ ما طاب قبل النوم، ويكون بهذه العادة ما قاله الرب عن عباده الصالحين إنهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وأنا شخصيا حببت إليّ القراءة من نصف قرن على كل حال ولو كنت في باص أو أنتظر دوري في البنك، فأقرأ من كل فاكهة زوجين، ومن كل صنف أروع فاكهته بدون خوف على عقلي من الاهتزار، ويقيني من الاضطراب، وروحي من عدم الاستقرار، وأذكر قولاً لصاحب كتاب (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) لمفتي طرابلس السابق (نديم الجسر) أن الفلسفة بحر على خلاف البحور يجد راكبه الاضطراب على شاطئه والأمان والاطمئنان واليقين في أعماقه، وهذا الكلام صحيح إلى حد كبير لمن ذاق المعرفة وعرف لذتها بتعبير سبينوزا الفيلسوف الهولندي. ومما يروى عن ابن سينا أنه كان يستيقظ كثيرا في نومه وإن كنا نحن الأطباء نحب من الفرد أن ينام ست ساعات متواصلات، ولقد جاء في الحديث الصحيح في كتاب زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي الموريتاني وهو كتاب قيم جدير بالاطلاع رقمه وشرحه ووضع أقوى الحديث فيه برقم متسلسل، جاء في الحديث أن أفضل الصلاة صلاة داود فقد كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، فإذا قسمنا الليل إلى 12 ساعة كان معناه نوم ست ساعات وقيام ليل أربع ساعات ثم نوم مجدد لفترة ساعتين وهي كمية معقولة في التقسيم بين النوم والقيام. وصاحبنا ابن سينا كان يقوم الليل ويسجل الأفكار الشاردة، وأنا شخصيا مرت عليّ ليال صعبة أقفز فيها كل بضع دقائق من أفكار تأتيني حتى أشفقت على نفسي وأجبرتها على النوم فأنا حاليا أنام على نحو جيد واحترك قوانين جسدي الفيزيائية ولا أشتكي من علة بحمد الله تعالى. ومما أذكر من قراءاتي الليلية أنني قرأت بلذة ولفترة أشهر طويلة كتاب عالم الاجتماع علي الوردي العراقي في موسوعته عن التاريخ العراقي الحديث، قرأتها وأنا أحمل قلماً فوسفورياً وآخر رصاصاً فأسجل في أول الكتاب ما طاب من أفكار. ولم يكن هذا الكتاب الوحيد بل قرأت كتاب عبدالله عنان في موسوعته عن (التاريخ الأندلسي) في سبعة مجلدات وكذلك كتاب فيكتور فرانكل بعنوان (الإنسان يبحث عن المعنى) وهو كتاب رائع عن تجربته الشخصية في معسكرات الاعتقال، وحين أمسكت به أشفقت علي زوجتي ولم ترتح لقراءتي لهذا الكتاب وخاصة في فترة ما قبل النوم لإثارته ذكريات مؤلمة لي عن معتقلات البعثيين الفاشيين، ولكنني قرأته لأكتشف فيه أمرا أبعد من التجربة الشخصية حين أبدع الرجل في شق الطريق إلى مدرسة جديدة في علم النفس أطلق عليها هو وآخرون مدرسة علم النفس الإنساني فكانت لا تقل في روعتها عن مدرسة علم النفس التحليلي أو مدرسة علم النفس الارتقائي التي أسس لها جان بياجييه السويسري أو مدرسة علم النفس السلوكي التي أسسها سكينر وواتسون أو علم نفس الجشتالت بيد هولمهلتز، أو الأخيرة علم النفس المعرفي (cognition) وما زلت أذكر من اللقاءات الليلية كيف قرأت زوجتي رحمها الله قصة المنفلوطي عن ماجدولين وأشجار الزيزفون ولم تكن مغرمة بالقصص فانحدرت دموعها كما انحدرت دموعي من قبل، وأنا أقرأ هذه الدراما وأنا مراهق، قرأتها زوجتي بعمر الخمسين فكان تأثرها مثلي وأكثر، رحم الله المنفلوطي ومعه أيضا ليلى سعيد.