جميل أن نخبر من بعدنا بأيامنا. يذكر القرآن كلمة أيام الله. وذكرهم بأيام الله. إنها الأحداث الحاسمات. سيذكر التاريخ وسنروي لأحفادنا هذا إذا كان عندهم الوقت للإصغاء لكلماتنا القادمة من رحم التاريخ. أشك أن يقرأوا ما كتبت أنا من عشرات الدفاتر؛ فالطوفان المعرفي وعالم الديجتال لا يترك فسحة. لقد استأنست حين عصفت بي الذاكرة، فقفزت الأيام القديمة واضحة متألقة أمام عيني. تذكرت عائلتي جيداً حيث ولدت ونشأت. أتذكر والدي أيضاً جيداً. لم أره يوماً يشكو المرض، خلاف والدتي. عاش عمره كله بالكدح والعرق والعمل. كان يقوم بتجارة وسيطة بين تجار حلب وبائعة المفرق في القرى. كان يحضر لنا حين ينفض السوق في الليل عادة كيساً كبيراً من فاكهة السوق. كان محله استراتيجياً وعمله موفقاً. عمَّر طويلاً ولم يشرب دواءً بانتظام، ولم يعتل بعلة. مات فقط لأنه ملّ الحياة. عاش القرن العشرين كله. ولد في أوله ربما عام 1910م، ومات عام 2001 مع أحداث سبتمبر. كنت ألحّ في السؤال عليه أن يروي لي أحداث القرن فيعاف، وإذا تكلم لم يفلح. أخيراً باح لي بسره في كلمتين «نحن عشنا ولم نعش». حين أذكر كلماته أقول رحمك الله أبا رياض! لو عرفتم لوفرتم علينا الفاتورة الباهظة للثورة السورية الحالية. أنا عكس ذلك أتمنى من حولي أن يصغوا لي، ولكن الكل مشغول عن السماع. كنت بأمانة أتوقع أن يختم القرن وندخل القرن ال21، وأن تتغير الأمور كثيراً. حين قلبت وجهي في السماء أبحث عن قبلة واتجاه وجهت وجهي باتجاه الكعبة للصلاة وكندا للحياة. أراحني جواز السفر الكندي في دخول تخوم ودول عديدة. نحن ندخل أمريكا والاتحاد الأوروبي وشمال إفريقيا من مصر وانتهاء بالمغرب، باستثناء الجمهورية الجزائرية الشعبية الديموقراطية، (كذا) بدون تأشيرة دخول، ومنها معظم دول الخليج. بكل أسف، كندا أعطتنا هجرة بدون عمل. فكان علينا أن نباعد المسافة بين الساقين ما يعجر عنه أعظم لاعب بهلوان في السيرك من مد ساق إلى برد كندا وساق أخرى إلى الخليج الساخن للعمل، وكذلك تفعل المقادير، فلا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت، كما دفنت زوجتي ورفيقة عمري في ثلوج كندا البعيدة.