لقراءة المشهد السياسي والمجتمعي الماثل بمنطق موضوعي تاريخي وابستمولوجي لا بد من التخلّي الحُر عن الفكر الانطباعي وردود الأفعال المشفوعة بالغنائية والتقديرات الاستنسابية، فالماضي لا يمكنه أن يتراجع بين عشية وضحاها، ومنطق التاريخ يقتضي الإقرار بأن التعايش بين الماضي والمستقبل مرجله الحاضر الذي يدفع ثمن المخاض العسير. ومن هذه الزاوية بالذات لا مفر من الإقرار بأننا لن نترك الماضي بين ظهرانينا في يوم أو شهر أو سنة ، لكن حضوره الكسيف سيومئ ضمناً وجوهراً لمعنى التغيير، فالتغيير على عسره وصعوبته يمثل أصلاً موضوعياً تقاطع مع إرادة جماهيرية وسياسية مؤكدة، وخطاب اليوم يختلف عن خطاب الأمس القريب، ولا أحد بوسعه اليوم أن يتوهّم أنه سيكون الحاضر الغائب الذي لا شبيه له أو مثال . هذا ما حدث في عدة بلدان عربية عصفت بالزعيم المُطلق، وبالمقابل أبانت مُخاتلة وزيف الذين أسهموا في عمْلقة ذلك الزعيم واعتباره وحيد ذاته وفريد عصره . في بلادنا وبالرغم من الأيام القصيرة التي مضت منذ الانتقال السلمي ظاهراً .. الجبري جوهراً، ترجماناً لقول الحكيم القائل: المرء في الظاهر ذو اختيار والجبر باطناً عليه جار وكان من عجائب الجبّار أن يُجبر العبد بالاختيار منذ ذلك اليوم الفلكي الفريد 21.02.2012 لانتقال السلطة تغيرت الأحوال على مستويات متعددة، ولن أُحصي هنا ما تم عملياً على خط تدوير الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء،أو استعادة العملة اليمنية بعضاً من عافيتها، وحتى سلسلة القرارات قيد التنفيذ ذات الصلة بالإصلاحات الوظيفية، بل أيضاً الانتقال الجوهري للخطاب الإعلامي بشقيه الرسمي والأهلي، فقد أصبحت فضائياتنا المُختلفة تلامس هموم الشارع، وتستدعي الذاكرة الجمعية بطيوف ألوانها، وفاضت الصحافة اليومية بمنابر التعدد الحميد، ولم نعد نتعاطى مع أصنام هلامية، أو آراء مختزلة كتلك التي عهدناها عقوداً من الظلالات والإفتئات على الشعب، بل العكس، فالمربع يتّسع اليوم للتنوع الذي سيُفضي إلى حكمة مؤكدة، ويكشف الغث من السمين، دونما استيهام بأن الغث سينحسر من ذات نفسه بين عشية وضحاها. هذه الحقائق تجعلنا مُطالبين بالتمسك بالأمل والتفاؤل، وقراءة التراجيديا المتنقلة على خط المدن والمحافظات المختلفة.. قراءة تسمح لنا باستقراء ما وراء الآكام والهضاب من حقائق مسحوبة على كآبات الماضي القريب الذي لن يطاول التاريخ ونواميسه، ولن ينحسر أيضاً خارج نطاق القوانين الموضوعية لهذه النواميس. [email protected]