- قبل أن تستعيد اليمن لوحدتها تاريخها وجغرافيتها شهدت سنوات اليمن الخمسون الماضية من عمرها الجمهوري الكثير من الجدال والنقاش التي كانت تبحث وتتجه كلها صوب عودة اليمن واحداً وإزالة الثنائية الشطرية وإنهاء الآهات التي كانت محبوسة في قلوب ونفوس الناس بسبب براميل الشريجة التي كانت أقوى وأشد بأساً على الإنسان اليمني المتطلع والحالم بلقاء الأحبة ووضع حد للفراق المعجون بالآلام والأوجاع. منذ مطلع السبعينيات بدأ النقاش الوحدوي يأخذ طابعاً جدياً، ورغم أنه لم يخلُ من المواجهة المسلحة لمرتين متتاليتين إلا أن هذا النقاش لم يهدأ، بل تواصل، رغم التحديات التي أدت إلى خلق صراع بين القيادتين الشطريتين، والذي ارتدى العديد من الألبسة والأقنعة، منها ما كان معروفاً ومنها ما كان خفياً، رغم ذلك بدأت ملامح الصورة الوحدوية تتضح وتتجلى مع مرور السنوات وفي ظل إصرار غير عادي على توحيد الجغرافيا واستعادة التاريخ اليمني المسروق. مضت الأيام والأشهر والسنوات في اتجاه العنوان الواحد والكبير لليمن.. وتقاربت وجهات النظر إلى أبعد مدى حتى كان ال30 من نوفمبر 1989م، التاريخ المضيء لليمن واليمنيين وفاتحة الكتاب اليماني التي أذنت بإزالة الثنائية الشطرية والإعلان عن استعادة اليمن واليمنيين لجغرافيتهم وتاريخهم اليماني الواحد في ال22 من مايو 1990م، وكل ذلك تم على رؤى واضحة تتجه للمستقبل وبنائه دون العودة مطلقاً إلى الوراء مهما كانت الظروف والتحديات. - الأطراف التي وقعت على تحقيق الوحدة اليمنية لم تكن لتوقع تحت تهديد السلاح أو استجابة لضغوطات خارجية، ولكنها اتجهت إلى طاولة الوحدة عن قناعة تامة واستجابة لرغبة أبناء الشعب، وفي الأول والأخير انتصار لليمن التاريخ والجغرافيا، وكل ذلك لم يتم بين ليلة وضحاها وإنما بعد سنوات من النقاش والجدال، تم على ضوئهما الوصول للنتيجة النهائية، وهي إعلان قيام الجمهورية اليمنية. ولكن هل كان هذا الإعلان مؤقتاً أو بعبارة أصح يحق لأي طرف من الأطراف الإعلان عن العودة إلى الوراء، وكأن ما تم هو عبارة عن شراكة بين طرفين يحق لأحدهما فضها متى ما شاء وأراد ذلك؟!. ألم يكن هذا الطرف أو ذاك على دراية بطبيعة الحياة ومكوناتها في هذا الشطر أو ذاك ليأتي أحدهما، ويقول بعد سنوات: نريد فك الارتباط واستعادة دولتنا تحت حجج واهية، ما أنزل الله بها من سلطان؟!. اليمن استعادت تاريخها وجغرافيتها، ولم يعد لأي طرف من الأطراف العودة إلى الخلف والمطالبة بفك الارتباط، بل كان على هذا الصوت المخزي الذي يطالب ب«فك الارتباط» أن يتسلح بسلاح الوحدة ويستمر في النضال لتنقية الوحدة من الأخطاء والشوائب التي طالتها، فتلك قضية اليمنيين جميعهم وليست قضية حزب أو جماعة أو حراك أو ما دون ذلك. - الوحدة اليمنية التي نرى اليوم من يعيدها للنقاش والجدال تحت مبرر حل «القضية الجنوبية» كانت هي الدافع والمحرك الأول والنهائي لتضحيات وبطولات الثوار وفعل الثورة اليمنية «سبتمبر وأكتوبر». المنجز الوحدوي العظيم كان الرد الأقوى على تخرصات المتقولين الذين دأبوا في محاولاتهم العبثية طوال أكثر من عقدين على إزاحة الحلم وإطالة أمد الفرقة والشتات بدافع من طموحاتهم الفئوية وأطماعهم المصلحية التي قامت على حساب الطموح اليمني الكبير، والمصلحة الشعبية الوطنية المتجسدة في حلم الوحدة وتحطيم أوهام الفرقة والتشطير. لقد حفظ الشعب وأبناؤه الشرفاء حق المناضلين وتضحياتهم البطولية وأوصلوها إلى التتويج التاريخي المهيب في جمع الشمل وتوحيد الكلمة وإعادة الاعتبار لتاريخنا العريق ووحدتنا المباركة المتجذرة في أعماق التربة والتاريخ والجغرافيا. فما بالنا اليوم نصر على الجري وراء طموحات ذلك البعض الذي لا يرى سوى مصالحه، رامياً بتاريخ شعب وأمة!. لماذا نصر على تعريض اليمن إلى التفتيت والعودة إلى ما قبل ال22 من مايو بمبرر مناقشة «القضية الجنوبية» التي لا تعني سوى الاستجابة لطموحات أصحاب الموروث الصراعي والعقليات الاستئثارية المخدوعة في التراجع إلى الوراء. الصورة كانت واضحة، وتم الإعلان يوم ال22 من مايو العظيم عن تحقيق الوحدة اليمنية وفقاً لذلك الوضوح.. وإن كانت «القضية الجنوبية» تعني تصحيح الاختلالات والأخطاء التي شابت مسار الوحدة فأهلاً وسهلاً بذلك، أما إن كان النقاش والجدال حول معنى البعض ل«القضية الجنوبية» بأنه لا يخرج عن إطار فك الارتباط فذلك في اعتقادي لن يجد أصحابه غير السراب مهما تعالت أصواتهم أو تمادوا في غيّهم.. وما عليهم سوى قراءة الواقع الوطني قراءة صحيحة ليدركوا ويعوا ماذا يعني اليمن الواحد الكبير لليمنيين اليوم؟!. لسنا ضد النقاش والجدال الذي سيقود إلى تصحيح مسار الوحدة ووضع الحلول والمعالجات لمجمل الأخطاء والاختلالات القائمة.. ولكنا ضد الحالمين التواقين إلى التراجع للوراء. ومهما ذهب المجتمعون اليوم في برلين أو غير برلين للاتفاق على الفيدرالية وتطبيقها في اليمن فيجب أن يعوا أن الوحدة راسخة وستبقى كذلك شاء من شاء وأبى من أبى، ولا قبول بأنصاف الحلول. [email protected]