[email protected] يوم قررت الأيدي الآثمة أن تغتال شهداء الكرامة ورفاقهم، اكتفوا بأن يتركوا أرواحهم فداء لليمن.. قدموا أجسادهم قرابين فوق مذبحة الوطن، على مقصلة الديكتاتور.. تخلوا عن أجمل سنين العمر طواعية وكرهاً. كانوا أكثر من نبتة حرية.. أبعد من مشروع شهيد.. كانوا كثيراً كثيراً تجمهرا للموتى، واستعداداً للمغادرة، تجمعوا في مشهد غير مسبوق، وصلوا هنا خلسة منا ومروا في العلن. في دوار جولة الشهداء (جولة المستشفى الإيراني سابقاً) قرروا مغادرتنا نحو عالمهم الأخير؛ حيث تختفي عصابات الليل ويغيب قناصة النهار، لكنهم بقوا همزة وصل بيننا والوطن إلى الحرية. فالحرية ليست نقطة وصول ولا مجيء، هي نقطة لقاء أو بداية، وهم من شكلها وقرر المضي بها، لم يخبروننا أي الطريق سيسلكون..لم يستأذنونا الرحيل، فجأة ذهبوا مخلفين وراءهم المرارة والغضب. لحظتها نصغي إلى حفيف أرواحهم المسافرة بعيداً بعيداً عن دنيا الضجيج، من قمع وسيطرة النظام الشمولي، إلى تعاقب القتلة لصوص الحياة. كل ذلك مكنهم من الذهاب باكراً.. في جنائز وداعاتهم واحداً واحداً، تورطنا.. غالبنا القهر.. كنا مرغمين يا رفاق الساحة والثورة على هذا الفعل. بصراحة لم نفعل شيئاً، أقدمنا على خنق الألم بعدكم، ونحن نزرعكم في حنايا الروح، تنبتون في تشققات قلوبنا ساحة ساحة.. خيمة خيمة.. ومنصة منصة. لا تقلقوا لقد قدمنا لكم العزاء كما ينبغي، أو كما يجب. يومها تلقت هذه الساحات، والوطن كله التعازي، تقبلناها عن أرواحكم بكبرياء وشموخ. في الحقيقة كانت جريمة مدوية، لم نشفَ منها حتى الآن. لانزال كما نحن وكما كنا يوم “الجمعة السوداء”، بقينا مقيمين في قاع حزننا المستظل بنا بعدكم. مع أننا على يقين أنكم منذ اللحظة الأولى على مشارف عليين، تطوف أرواحكم طاهرة زكية في الفردوس. قبل هذا اليوم لم نكن نفكر ملياً بهذا النهار الحارق، أو ننسج له الخطط والبرامج لمواجهته، وهل يبقى الضحية مثلنا مكشوفين إلا لأيدي الغدر والشر؟. ففزتم بشرورهم الخبيثة بلا منازع، لم يتقاسمها أحد سواكم، ولم يحظَ بكل هذا الاهتمام غيركم. حتى إننا شعرنا بعدها بأنكم انتقيتم الشهادة بسلاسة فائقة وعناية بالغة. لقد استأنفتم حياتكم هناك، كنتم تتدافعون إليها أشد من إعصار، وقال العالم: كانوا سيلاً من أمل هذا البلد. حكايتكم تتجسد كقطار تضحية؛ قطع الفيافي والقفار في أرجاء المعمورة.. أصبحت قصتكم لا تشبه غيركم، إنها في متناول القاصي والداني. أنشككتم صورة وحكاية في كل بيت، أوسمة ونياشين فوق الصدور، جعلت البلد منكم نوافذ لدفء الشمس، ومن برد الموت المتربص بحياة اليمنيين بأسرها. في تلك الجمعة ارتديتم من الثياب أجملها، تأنقتم بما يكفي.. وحضرتم حفلة القتلة، أصبحتم في غمضة عين نجومها الساطعين.. آه منكم وآه عليكم.. يا أنقياء الساحة يا أوفياء التغيير. تقريباً تشكلت خارطة الوطن مجدداً بكم وبلا منافس، لن نغار منكم بعد اليوم؛ لأن يومكم كان كل الأيام العصيبة والسنين المتراكمة، تأريخ القاتل يتكثف بمجرد ساعة واحدة، خلفت محنتكم أنتم. تكفي الآن لتصير كتباً وروايات من الرثاء والتبجيل، والقهر والوجع، والتخبط، والحرقة. كانت ببساطة جمعة فارقة في حياة وطن وثورة، أضحت حمالة ثورية بامتياز وسياسية بغباء، حددت المسار الحقيقي للثوار وللسياسيين غير الأسوياء أيضاً. على إثرها تداعى وتخلع أغلب رجال السلك السياسي والدبلوماسي من حول الرجل السابق الأوحد. ولذلك كله..ها نحن نشعل لكم شموع الحرية، نطلق لأجلكم زغرودة البهجة. آلة القتل التي سلختكم عنا لم تنوِ تغييبكم، بل سحقت أحلام شعب وأمه. فلم تحقق ما تريد، لقد باءت بالفشل.. جعلت منكم قناديل ضوء، صدرتكم في السماء حيث أفقكم الرحب. تلقيتم الرصاصة تلو الرصاصة، لا يعني هذا سوى إقدامكم على منازلة الموت، هنا تذودون عن الأمل المنشود بالحرية، وهناك تركتم أجسادهم البريئة تجهز عن وحشية القاتل. أرهقتم خطته الضحلة، أفسدتم مشروعه الإجرامي الانتقامي. وها أنتم بيننا تنبتون زهراً برياً؛ وروداً ورياحين، بعد أن حاول غيلة أن يقطفكم من تربة الوطن. أقدامكم الملطخة بالطين.. المتورمة بالوجع لاتزال تسير في مختلف الشوارع، تركض أمامنا وخلفنا، لن نقول: إنها فضلت مغادرتنا في هذا المخيم الواسع؛ معسكر السلام والحلم بالتصعيد والحسم. ليس الآن..هناك متسع من الوقت وتصعيد آت في مسيرة ومسيرة قادمة. بأصواتنا تهتفون، وبأيدينا تحملون الفتات ومشاعل التغيير. إنا على ثقة بالغة بأن حناجركم لم تبح يوماً، لم تملوا،هذا صوتكم يرتد صداه جرأة وحنيناً. لم تكتفوا بترديد الشعارات، بالتقاط الصور، أخلصتم بكل تفانٍ لهذه الثورة حد التضحية. وفي مثل هذا اليوم 18مارس الفائت سقطتم شهداء الحلم، شتلاته المتجذرة في تربة الوطن والنفوس. يتذكر اليمنيون بأن مارس الماضي لم يكن سوى الفاجعة، حينما انفجرت بركة من الدم. فاقت كل التوقعات الإجرامية واللاإجرامية، كنتم أنتم نهرها الجاري المتدفق بعنفوانه الزاخر. لم نكن قبل هذه الجمعة قد قررنا بأن نؤدي الصلاة في شارع الستين، ولم تكن فكرة “مجزرة بشعة” من هذا النوع القاتل تتشكل في الأذهان، امتلأت الساحة وفاضت بالمصلين، وأيضاً فاضت بالمتربصين. أخذوا مواقعهم، ومن على أسطح بعض المباني المطلة كنسور صيد تحلقوا، فأخذت مكيدتهم تتحقق بكل فنون الصيد والقنص. الانقضاض على الضحية سهل للغاية لو فعلته الجوارح، ولما ذهب إليه قناصو صنعاء؛ تمكنوا من تحديد أهدافهم بكل دقة ويسر، وباشروا تنفيذ المهمة من كل الزوايا والاتجاهات. قتلوا من قتلوا، وجرحوا من جرحوا، غير أننا لم نتوقعها كارثة بكل مقاييس الوحشية البشرية تلك. صوّبوا ما يزيد عن 50 هدفاً، ازدحم الأموات وسط الأحياء، وتلك مشكلة كبيرة وجديدة بالنسبة للساحة والمستشفى الميداني، الناس يصرخون، تركض الساحة في الساحة، وتعلقت وجوه العالم أمام الشاشات وغار الدم. تأكد القتلة أنهم حققوا رغبتهم، لقد صوّبوا الرؤوس والقلوب. وصبّوا غيضهم في مفاصل الثورة، لكنها لم تتجمد، ولاتزال غضة تحبو. كان بمقدور الشباب هذه اللحظة أن يكونوا أقوى من أي وقت مضى، شكلوا جسراً بشرياً عاجلاً، تمكن البعض من الوصول حتى سطح الطابق الثاني لإحدى مواقع القناصة، بعد أن اجتازوا أجساد أصدقائهم، كان البعض الآخر يدك سوراً إسمنتياً تغلي من خلفه الإطارات ويتصاعد الدخان. هذا جزء من خطة القاتل محكمة التنفيذ؛ حيث يطلقون النار من الجهة المعتمة، لكنهم كانوا مع مرور الوقت في مرمى الشباب الغاضب. غير مكترثين بقوة جهلهم وفضيحتهم المجلجلة، ضبطوا منهم الشباب ما يزيد عن عشرة متلبسين.. في تفاصيل الجريمة معركة من طرف واحد، بالطبع “معركة غير متكافئة”، الأجساد العارية الآمنة في مواجهة القناصة. لقد خاضها الشباب وسقط منهم طابور من الشهداء. ولم نعد نمتلك لكم في الذكرى الأولى غير الرثاء.. رثاؤهم لا يكفي، ليس من الشجاعة تنميق الكلمات، وتسطير الجُمل في حق شهيد. هذا قليل، في حضرة كوكبة من الأحرار ينحني مديح الزمان، ويحلق مكنون الكلمات بلا عودة. ولم نقل عنكم ما يعد سوى النزر اليسير في طريق نبلكم الخالد. وحتى لا نرتدع عن صمتنا نحن الساكتين بعدكم، ولترحلوا أنتم إلى الأبدية إلى الخلود، وقتلتكم يرحلون إلى الهاوية.