في إحدى الندوات العلمية التي عقدت في جامعة إب من سنوات مضت، التقيت على هامش الندوة كثيراً من الزملاء والأصدقاء الباحثين من جامعات يمنية عديدة، وقد استمعت من أحدهم أحتفظ باسمه وصفته لنفسي إلى بعض النصح من “خبير” أو متمرس في عالم الصحافة والكتابة، نبهني إلى ضرورة احترام عقل القارئ، والتروي أثناء الكتابة وعدم الاندفاع في طرح الآراء، خاصة عند الكتابة في الصحافة الوطنية عن قضايا تهم الرأي العام الوطني، وتلامس قضايا وهموم الناس اليومية، والنظر إلى جمهور القراء العريض الذي يمثّل مختلف الشرائح والفئات والأهواء والمشارب السياسية بنفس المنظار، ومخاطبة الجميع باللغة التي يستطيع أن يفهمها كل واحد منهم. من يومها سعيت مخلصاً إلى تجنب الإساءة “المتعمدة” إلى عقل ورأي القارئ، أياً كان انتماؤه أو تخصصه أو ولاؤه، وبذلت جهدي في تحري الأمانة والصدق والموضوعية في الكتابة بدافعٍ من صوتٍ داخلي يحثني على ذلك كل مرة أكتب فيها، وألزمت نفسي “قدر الإمكان” بالبحث عن المعلومة من أكثر من مصدر قبل تناول أي موضوع، وكنت أقوم بإعادة قراءة المقال أكثر من مرة، وتقليبه على أكثر من جهة وجانب، ثم إنني كنت أعيد مراجعته مراتٍ ومرات، وفي نهاية المطاف أقوم بتهذيب اللغة، وتشذيب الأسلوب، ومراجعة العبارات الطويلة لاختصارها، أو حذف المكرر منها، واستبعاد الأفكار غير المفهومة أو التي تحتاج إلى تبسيط وتوضيح. كما أنني اجتهدت في كل مرة في اختيار أسلوب مختلف يتناسب مع طبيعة الموضوع، وبما يجلب الفكرة واضحة وسلسة وممتعة إلى ذهن القارئ. وفوق كل ذلك، لم أحاول أبداً أن ألزم القارئ برأي محدد، أو بقناعة شخصية معينة، حتى في الموضوعات التي أحسست أنها تجاوزت حدود اللياقة أو “الدبلوماسية”، كنت أطرح فيها أكثر من فكرة معززة بوقائع وأقوال وأمثال، وأضع حولها أكثر من تساؤل، وأستعرض أكثر من وجهة نظر أو موقف، وأترك للقارئ حرية تكوين الرأي الذي يناسبه، ليس جبناً، أو مداهنة، أو انتقائية، ولا رغبة في تجنب النقد أو إرضاء لجميع القراء (وهي الغاية التي لا يمكن تحقيقها)، ولكن لعقيدة راسخة أن مهمتنا جميعاً تبقى تنويرية، لكنها لا تضطرنا دوماً إلى إرضاء جميع “الأذواق”، ولا أيضاً تخولنا الحق في فرض قوالب جاهزة لصناعة فهم محدد أو رأي موحد، أو ادعاء قول الحقيقة دوماً، وإنما لرغبة في خلق مناخ للنقاش والتفكير، وجعل القارئ سيد نفسه في اتخاذ الموقف الذي يناسب قناعاته ومبادئه وأخلاقه وقيمه. ترى هل نجحت، وهل نجحنا جميعاً أقصد جميع الكتاب في إقناع وإرضاء عقل جميع القراء في كل تناولاتنا وكتاباتنا؟ أشك في ذلك؛ لأن إرضاء “كل” الناس ومعهم القراء في كل مرة غاية لا تدرك، ربما لأن الحقيقة تظل عصية ولا يمكن أن يدعيها أو يحتكرها أحد، والمعارف متبدلة ومتغيرة بوتيرة عالية وسريعة تتجاوز حدود العقل البشري وإمكاناته المتواضعة، والآراء متباينة أبداً ودائماً منذ بدء الخليقة، وهذه سنّة الله في الخلق، وزوايا النظر لنفس الموضوع متعددة، والمواقف من كثير من القضايا متقلبة، والمعلومات والمصالح متعارضة ومتضاربة، والغايات ستظل مختلفة، والنظريات والمذاهب شتى. وهذا يفرض علينا جميعاً مسئولية وواجب يحتم على الجميع بذل الجهد في سبيل احترام عقل القارئ. (*) جامعة إب