ماهوالمجتمع المدني؟ وقبل الجواب على ذلك يحسن أن نوضح القصد من هذا السؤال قبل الدخول في التفاصيل. إن الحديث عن المجتمع بدون الحديث عن المجتمع المدني ، بدون الحديث عن مؤسساته هو حديث مفكك وغير مترابط ، إنه يشبه من يقرأ آية (ويل للمصلين) بدون تكملتها ، وهنا ينبغي التأكيد على ضرورة الربط بين هذه التعريفات الثلاثة. وعلى هذا فإننا لا نقصد بأحاديثنا هذه التعريف بالمجتمع لذاته ولا بالمجتمع المدني لذاته . بل هما خطوتان مهمتان للوصول إلى التعريف بمؤسسات المجتمع المدني ، الذي هو الهدف الأخير لهذا الحديث. لأن الحديث عن أي مجتمع بدون الحديث عن نبضاته إنما هو تشريح لجسد ميت. سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة باختصار شديد. تاركاً المجال لغيري من ذوي الاختصاص أن يصول فيه ويجول ، ويبدي ويعيد ، راجياً من صحيفة الجمهورية الغراء أن تتولى هذه المسئولية فتفتح صفحاتها لحوار متنوع مع كل الآراء المختلفة ، وكل الأطراف الحزبية ، وترسل محاوريها إلى كل من تجد عنده نبعاً من القول ، وتبعث اسئلتها إلى كل من عنده فيض من اختصاص. ذلك أن بناء مؤسسات المجتمع المدني هو الأساس القوي للديمقراطية ، ومالم يتحمل المجتمع مسئوليته إزاء هذا الواجب الوطني فلن يقوم للديمقراطية كيان ، ولن يكون للمؤسسات المدنية من أثر. وأدعو كل المثقفين إلى تكريس جهودهم الفكرية من أجل بناء المجتمع المدني ومؤسساته. إذ لا يمكن بأية حال أن تنشأ الديمقراطية إلا في ظل مؤسسات المجتمع المدني التي تتقوى بدورها-من خلال المشاركة الأوسع- بالحكم اللامركزي. فالمجتمع المدني والديمقراطية واللامركزية متلازمات تلازم الروح بالجسد ، فإن اختل أحدهما تداعى الكيان كله للخراب. وهكذا يؤكد التلازم بين تلك الأركان شرطاً أساسياً لقيام مجتمع مدني ، ديمقراطي ، لامركزي. ويؤكد في الوقت نفسه أن المشاركة في القرار والمسير والمصير لا تؤدي دورها كاملاً إلا إذا تكامل بناء هذه الأعمدة الثلاثة ، وأنه متى تكاملت فإن مشاركة الأمة عندئذ تكون في ذروة طاقتها العملية ، وتكون أكثر فعالية في الأداء. مرة ثانية نسأل ماهو المجتمع ؟ ثم ماذا نعني بمؤسسات المجتمع المدني ؟.. أولاً : نعني بالمجتمع مجموعة من الناس تجمعها ثقافة سلوكية مشتركة تتحكم في سلوكها وتنظم إيقاع حياتها. وقد تكون هذه الثقافة رفيعة أم متدنية ، فالثقافة السلوكية هنا لا تعني أكثر من نمط حياة.. ثانياً : نعني بالمدنية مجموعة من الناس لها نفس الخصائص الأولى لكن ثقافتها أرقى وأكثر ذوقاً من ناحية المضمون. ومن هنا فرقوا بين سكان المدن فقالوا مدني وحضري وبين سكان البوادي فقالوا: بدوي وقبلي. وقد اختص بهذا التعريف أهل المدن وأهل الحضر. وهكذا ربطوا بين المدني والمدنية والحضر والحضارة. ثم قالوا: الإنسان مدني بطبعه. أي إجتماعي بسلوكه ، أي أنه يسعى إلى التكاتف والتضامن والتكامل.. ثالثاً: نعني بمؤسسات المجتمع المدني تلك المؤسسات التي تنبثق من الأمة برضى منها واختيار لها وإصرار عليها وفق حاجتها ومحتاجاتها . وهي مؤسسات غير رسمية لا تتكون بأمر فوقي ، وإنما تصدر من حاجة الأمة كلها. وتكون مهمتها هي تمكين العدالة بمختلف حقولها السياسية والإجتماعية والإقتصادية وتشغيلها من قبل الأمة تشغيلاً جيداً ، وفي الوقت نفسه عدم تمكين التسلط من الوصول إلى الحكم ، والمحافظة على المسيرة الديمقراطية ، ومنع الإنزلاق نحو الفردية أو الدكتاتورية والمراقبة اليقظة حتى تمنع الخلل قبل وقوعه. إذن فالمجتمع المؤسسي لا يدعم ويعزز ويثبت فقط الديمقراطية ، وإنما يبعث الحياة في فهم المواطنة نفسها فيمرع المواطن بالإبداع والخصب والعطاء. وعلى العكس من ذلك المجتمع الجديب فإنه يدعم التسلط ويجفف نشاط المواطن والوطنية والمواطنة. وهنا يظهر الفارق جلياً بين مؤسسات المجتمع المدني وبين الدوائر الحكومية. ففي الوضع الطبيعي تشكل المؤسسات دور المخطط والمراقب بينما تشكل الإدارات دور المنفذ. وفي هذه الحالة تكون المؤسسات والدوائر منطلقة من ينبوع واحد من الأمة لكن في الحالات الشاذة فإن الدوائر الرسمية ليست سوى آلية لتنفيذ رغبات التسلط ومن ثم لا يمكن أن تحمل هذه الدوار صفة المؤسسة المدنية ولكن يطلق عليها صفة الدائرة الرسمية. وحتى البرلمان الذي يأتي بأمر متسلط ويجري إنتخاب أعضائه بطريقة عالم التخلف لايمكن أن يكون مؤسسة مدنية اجتماعية لكنه يظل دائماً دائرة حكومية. ومن هنا لا يمكن أن تسمى دوائر الحكومة مؤسسات مدنية قط ، لأنها في حالة وجود التسلط نقيض لها. أن أحسن وصف لهذه الدوائر أنها آلة صماء تسير الأمور خيراً وشراً. بعد هذه التعريفات الموجزة يحسن أن نشير إلى أن مصطلح المجتمع المدني صيغة حديثة ولد في نفس أجواء الديمقراطية واللامركزية. أي أنه من عناصر الدولة الحديثة ، بالرغم من أن أول من طرحته كانت دولة الأمة في المدينةالمنورة قبل ألف واربع مئة سنة ، لكن الفترة كانت قصيرة بحيث انها لم تترك اثرا عميقاً . ثم مضى عليها حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً إلى أن بعثت من جديد في مكان آخر كما سيأتي.. إذا اتضح أن الإنسان مدني بطبعه كما قالوا قديماً ، بمعنى أنه كان يسعى إلى الأفضل والأحسن لكن لماذا تعرقلت خطاه في بناء المجتمع المدني؟ نترك الجواب التفصيلي عن العوائق الى مقال قادم. ونجيب عليه إجمالاً في هذا الحديث. رافقت خطى الإنسانية منذ زمن قديم ظروف جعلت المسار يخرج عن طبيعته. ففي البداية كانت المجموعات البشرية الأولى تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً ، وتشارك مشاركة متفاوتة في ما تتخذه من قرارات. وكانت بمشاركتها العملية في قرار مسيرها ومصيرها قد شكلت الخلية الاجتماعية المدنية الأولى. وبالرغم مما يقال نقضاً لهذا المفهوم إنها كانت أيام بداوة صرفة لكن سيتضح لنا في الحديث القادم أنها كانت تشكل بالفعل مجتمعاً مدنياً سعيداً ، وأنها كانت تقوم على جهد الجميع وتطبق ما أجمع عليه الجميع ، فكانت بالفعل النواة الأولى –بل الأسعد- للمجتمع المدني. يتضح من هذا أن البداية البشرية كانت تسعى بخطى ثابتة نحو المجتمع المؤسسي المدني ، وأنها قد صرفت دورة زمنية سعيدة. ثم جاءت دورة أخرى عصفت بالأولى وتوجهت توجهاً شقياً. وقد كتب لهذا التوجه الانتصار في النهاية ، كما سيأتي. من خلال تلك التجربة القاسية اتضح أنه بقدر ما كان مجتمع القوة يتصاعد ويشتد بقدر ما كان المجتمع المدني ينكمش ويتضاءل. وهذا يسلمنا إلى القول المؤكد: أن التسلط لا يغلب إلا في حالة انعدام مؤسسات المجتمع المدني ، وأنه بقدر ما يصيب هذه المؤسسات من ضعف بقدر ما يمنح المتسلط من قوة. وكانت النتيجة لهذا الصراع أن خضع المجتمع المدني في النهاية لمجتمع القوة ، فساد من ثم شكل من أشكال العبودية السياسية في العالم الإسلامي حتى اليوم. وبسيادة القوة تم عزل الأمة عن مسيرها ومصيرها فمالت إلى الإنزواء وركنت إلى الإنكماش. ومن الطبيعي عندما يصل المجتمع إلى هذه النقطة ، أي إلى الانكماش فإن مؤسسات المجتمع المدني –أي مشاركاته- تكون قد غابت نهائياً عن الأثر والتأثير ، إذ أنه لا يتم الوصول إلى هذه النقطة الحرجة إلا إذا سلبت من الإنسان مسئولياته الإجتماعية. أي أنه أصبح مكفوفاً لا يشارك ، وكفيفاً لا يرى ، وجسداً بدون روح ، وغريزة عمياء تمشي بأمراضها في مناخ عبودي كامل. وبطبيعة الحال فهو لا يصل إلى هذه الحالة إلا إذا واجه ظلماً لا يقدر على دفعه. والظلم لا يعلو إلا في ظل الإنزواء والإنكماش . ولا يقوى إلا في غياب المجتمع المدني . نتيجة لذلك كانت القوة منذ تغلبت في علو دائم ، وكان الحق ضحيتها دائماً. من هنا ندرك أن مؤسسات المجتمع المدني هي باختصار مؤسسات الحق فوق القوة ، وأن المجتمع غير المدني هو مجتمع القوة فوق الحق . وهذا هو الفارق العظيم والواسع بين المجتمعين. الأول: مجتمع مشارك صاحب قرار في المسير والمصير ، ومن ثم فهو يشكل بالفعل مجتمع الأمة الحاكمة. والثاني: مجتمع مسلوب لا يشارك لا في المسير ولا في المصير وإنما عليه أن يوافق على أي قرار يتخذه غيره وعليه أن يتحمل النتائج صابراً بدون أن يكون له رأي فيها ، فهو مجتمع الأسرة الحاكمة. الأول: يسعى إلى إيجاد مؤسسات الحكم. والثاني : يسعى إلى تثبيت كرسي الحكم. عندما تسود مؤسسات المجتمع المدني تسقط تلقائياً المفاهيم المنحرفة التي صاغها التسلط من قديم الزمان ويختفي التمسك بالأشكال بدلاً من الجوهر . وفي المجتمع المدني سواء أكان رئيسه ملكاً أم سلطاناً أم جنرالاً فإن ذلك لا يغير من طبيعة الحكم شيئاً ، لأن الحق وقوانينه هي التي تضبط نبض المجتمع. وهذا يعني أن مجتمعاً بدون مؤسسات حاكمة لا يعتبر مجتمعاً مدنياً ولو كان كل أعضاء الدولة مدنيين. ولو نفد البحر من كتابة الدساتير فإن الدكتاتورية المدنية أو الفردية تبتلع المجتمع المدني ابتلاعاً. لأنها تنفرد باتخاذ القرار ، وتمنع الأمة من المشاركة. وعلينا أخيراً أن نتساءل : هل في إمكانية التركيبة الإجتماعية القائمة الآن أن تنشىء مجتمع المؤسسات المدنية؟ أخشى أن يكون الجواب سلبا. فالمؤسسات الاجتماعية ليست من صنع فرد أو قبيلة أو حزب أو مذهب ، وإنما هي عصارة أفكار أمة كاملة التقت بالتوافق في مسارات ثابتة. والوضعية القائمة الآن بنمطها الحالي لا تدخل في هذا السياق ، لا لأنها تملك مفهوماً متخلفاً فحسب ، بل ولأنها لا تقدر على إنشاء المؤسسات ، لأنها تحمل ترسباتها الفردية والشمولية معها ، ولذلك فعليها أن تغير مفاهيمها ، وتخرج من مأزق نفسها . على الحزبي أن يتحول من فكرة الحزب الواحد الحاكم إلى القبول –يقينا لا مسايرة- بالمشاركة . وعلى الجندي أن يرفض فكرة العسكرتاريا ويقبل بالمشاركة . إن المؤسسات المدنية تقبل المشاركة وترفض احتكار الصواب ، وتقبل الاجتهاد وترفض التجمد والتجميد ، وتقبل الحوار وترفض قبول القرار ، وتمثل الأمة كلها ولا تمثل قبيلة واحدة ، ولا حزباً واحداً ، ولا قوة عسكرية. فإذا ما استوعبت هذه الفئات لغة المؤسسات الاجتماعية فإنها عندئذٍ ستنطق بحروفها وتتكلم بلغتها . ومالم يتغير ما بالنفس فلن يتغير ما في الواقع، ولن تستطيع هذه الفئات بتكوينها النفسي والفكري والإجتماعي والتاريخي أن تدخل حرم مؤسسات المجتمع المدني.