عندما تصنع الشعوب ثوراتها .. فهذا يعني أن هذا الشعب أو ذاك تخلص من صراعاته وخلافاته الفرعية العقيمة بالغالب واتجهت إلى شعار وهدف واحد يجمعهم ويصبح لهم حلماً وطموحاً (الشعب يريد اسقاط النظام)..يضحي من أجله بالنفس والمال، وعندما يجتمع الناس على شعار واحد وهدف واحد يزداد حماسهم لتحقيقه وتماهيهم فيه، وهذا بالضرورة يؤدي إلى تماهي أرواحهم وتقارب أنفسهم .. فتتراجع الأنانيات الفردية المحطمة للشعوب وتبرز أخلاق الثورة التي منها الحب والإيثار والتضحية والإحساس الواحد والحركة الواحدة والوثبة الواحدة والضحكة والدمعة المشتركة (كشعب)... وأي انتصار أو فرحة تتحقق فإنها تدخل كل بيت وكل نفس بنفس القدر من البهجة والسرور، وأي حزن أومصيبة فإنها تدخل أيضاً كل بيت وكل نفس بقدر واحد من الحزن والاحتراق، وكأن الشعب تحول إلى جسم واحد، فتجد أي جرح يصيب الفرد يحس به الجميع وأي شهيد يسقط يفتقد في كل بيت وترفع صوره في كل شارع وحارة . هذه الروح الجمعية دائمة التوثب مرهفة الإحساس هي السر وراء القوة والصمود الشعبي والانتصارات الأكيدة وهي الروح التي تفشل معها كل أساليب الطغاة وجبروتهم، لأنهم يتعاملون مع حالة جديدة غير التي الفوها من شعبهم . إن الثورة ليست قراراً من أحد ولا سلعة تباع في بقالة ولا ماركة مسجلة لحزب أو جماعة أو حتى لفئة عمرية محددة، إنها روح الشعب تولد في وقتها، وعندما ينهض الشعب يكون الشباب في المقدمة والشباب هنا يمثلون الكيان العام ولا يحق لأحد أن يحتكر هذا الشرف أو يدعيه. المشكلة هنا أن الدكتاتوريات التي تسقط أمام هذه الروح لابد أن تحاول قيادة ثورة مرتدة أو مضادة وهي تدرك تماماً سر قوة الشعب المتمثل بالتفافه ووحدته حول شعار وهدف تحول إلى حلم عام، فيحاول سحب هذا السلاح وافراغ القوة منه وإدخاله إلى الفرعيات وجرهم إلى مربع الفلسفة والجدل حول التفصيلات والفرضيات لو كان كذا لكان كذا.. على شاكلة سرقة الثورة ومن هو الثائر ومن هو المقصر وتخويف البعض من البعض، مركزاً في هجومه وشائعاته على الكيانات الأكبر والعناصر المؤثرة مستعيناً بالحلقات الأضعف والناقمة في الثورة والتي تكون بالعادة غارقة في ذاتها وأنانيتها المتضخمة التي لاتتناسب مع واقعها على حساب التماهي في الشعار الحلم، وإذا نجح الدكتاتور في جر معظم جمهور الثوار إلى هذا المربع يكون قد ضرب الحلم في قلبه وعقر الثورة في دارها، لأن المستبد أثناء سقوطه لاهم له إلا أن يسقط ويموت مع الثورة، وفي الوقت الذي يبدأ الثوار في المقاومة ولملمة أنفسهم بل حلمهم في وجه الثورات المرتدة ومحاصرة الجماعة (المنتفخة) كحالة مرضية في صف الثورة، فإنهم يكسبون حصانة تؤهلهم ليس لحماية صف الثورة من الاختراق وإحراق الحلم بل تمكنهم من صياغة شعار جديد وهدف جديد لمرحلة ما بعد الانتصار و(اسقاط النظام) بنفس الروح العامة والقوة الجمعية المحافظة على الحلم الواحد الذي يرتبط هنا بهدف وشعار البناء الجديد والنهوض الحضاري. [email protected]