غيّرت ثورات الربيع العربي السلمية مفهوم أو مدلول الثورة من طابعها الدموي العنيف الذي يقضي على الأخضر واليابس دون تمييز، وأضحت الثورة الشعبية الشبابية السلمية ثورة أقرب إلى الثورة البيضاء، لا تدعو إلى رفع السلاح التقليدي ضد خصومها في النظام، ولكنها تستخدم سلاحاً أكثر أهمية وأماناً للشعب وللبلد، ألا وهو سلاح التظاهرات والاحتجاجات السلمية والإضراب الجزئي ثم الكامل عن العمل، حتى يصل إلى أعلى مراحله بالعصيان المدني الشامل. وفي المقابل فإن الأنظمة في ظل ثورات الربيع العربي هي من تستخدم السلاح التقليدي وبعنف أكثر دموية لقمع الثورة البيضاء ذات الطابع السلمي، وكلما أمعنت في القمع والتنكيل بالمتظاهرين والمحتجين أدى ذلك إلى انضمام قوى جديدة لتلك الثورات الشعبية الشبابية. ولعل الأمر المثير للدهشة والأكثر تخوفاً على مستقبل تلك الثورات هو انضمام قوى تقليدية للثورة كانت أصلاً جزءاً لا يتجزأ من بنية النظام الذي قامت الثورة بهدف إزالته. والأدهى من ذلك أن الكثير ممن انضم للثورة من أركان النظام السابق هم من الفاسدين الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها ثوريين من الطراز الأول. ويبالغ هؤلاء في إظهار ولائهم للثورة، ويكيلون للنظام السابق أفظع التهم... ومن جانب آخر تبدأ الفئة الصامتة في التعبير عن نفسها، وتنظم للثورة بعد أن تشعر بأن الثورة أصبحت حقيقة، وأن النظام آيل للسقوط. وفي ظل هذا الوضع الثوري المتناقض يضيع الثائر الحقيقي في الزحمة، ويكاد صوته يخفت أو بمعنى آخر يتم إسكاته تحت مبرر أن الثورة ليست ملكاً لأحد بل هي ملك الجميع. ويبرز في هذا الخليط غير المتجانس بل والمتناقض لدرجة مفجعة تساؤل هام وملح: من هو الثائر الحقيقي؟ وهل كل من ركب موجة الثورة ثائر؟ وهل للثائر صفات طبيعية أم مكتسبة تميزه عن غيره؟. وأعتقد - مجتهدة في هذا الشأن - بأن الثائر الحقيقي وخاصة في بلادنا هو الذي لا يفكر بنفسه، ولا يتحدث كثيراً عن تضحياته في خضم الثورة، يعطي دون حساب ولا ينتظر مقابلاً، لا يهمه أن يحصل على منصب أو قيادة أو مغنم، بل كل همه أن تتحقق مبادئ وأهداف الثورة السلمية، كما وضعها وحددها الشباب الثائر بحق، قبل أن ينضم للثورة الكثير من المتمصلحين. يتصف الثائر الحقيقي بصفة هامة وهي الإيثار؛ فهو يؤثر غيره على نفسه، ولا يخون أو يكفر أو يسيء لأحد، ولا يهمش أو يقصي أحداً عن المشاركة في قطف ثمار الثورة، ولكنه في المقابل لا يقبل أن يتولى زمام الأمور شخص معروف بفساده وظلمه. فالثائر الحقيقي من تراه يعمل بصمت ولا يحب الظهور، وتجده دائماً في مقدمة الصفوف، وفي مواجهة خط النار، يعمل كثيراً ويتكلم قليلاً، ويفكر برؤية استراتيجية، ولا يهتم بصغائر الأمور، ويتجاوز أية هفوات قد تحدث في محيط الثورة. كما تجده دائم الحركة ومستعداً لتقديم كل ما بوسعه لتنجح الثورة وتحقق مبادئها وأهدافها النبيلة، فعلى سبيل المثال يرى الثائر الحقيقي أن تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هي أهم أهداف الثورة، وينبغي أن تأخذ أولوية ثم تليها بعد ذلك الأهداف الفرعية كحل القضية الجنوبية والقضية التهامية وقضية صعدة... إلخ. ولعل أهم صفة للثائر الحقيقي أنه لا يسعى للانتقام من أحد مهما كان موقعه، ولكنه يسعى لتطبيق القانون والنظام عبر تحقيق استقلالية القضاء ونزاهته، بحيث يحاكم كل من أفسد مما علا موقعه أو هبط، وسواء كان من النظام السابق أو الحالي. وهناك صفات عديدة يمتاز بها الثائر الحقيقي معظمها إيجابية، وقد تكون له سلبيات وهذا شيء طبيعي؛ لأنه بشر ولكنها لا تذكر مقارنة بإيجابياته، ولعل أهمها ذوبانه في الجماعة، وإهماله لنفسه ولمصلحته كإنسان من حقه أن ينسب له فعله الثوري، لا أن يأتي آخرون ليعتلوا المنصة نيابة عنه، وينسبون ما قام به من بطولات لأنفسهم. وسأتناول في مقالة قادمة معاناة الثائرين الحقيقيين، وكيف يمكننا التخفيف منها على الأقل حتى نعيد للثائرين الحقيقيين مكانتهم اللائقة بهم. [email protected]