شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    شاهد.. أول ظهور للفنان الكويتي عبد الله الرويشد في ألمانيا بعد تماثله للشفاء    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    شاهد الصور الأولية من الانفجارات التي هزت مارب.. هجوم بصواريخ باليستية وطيران مسير    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جينالوجيا العمل الحزبي والمدني في اليمن
نشر في الجمهورية يوم 29 - 05 - 2012


تمهيد
شكى الاستاذ احمد محمد نعمان في مذكراته التي نشرها مركز الدراسات العربية والشرق الأوسطية والمعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية ومديره د. فرنسوا بورجا وترجمها د. علي محمد زيد: انه تعرض للكثير من المضايقات والاتهامات من رفاقه وضيوفه الثوار الذين كانوا يصرون على معرفة مصادر الاموال ومقاديرها والتي ينفق منها عليهم وعلى العمل، وهي اموال يرسلها اليه مغتربون في المهاجر ويخشون على اهلهم من سطوة الامام ان عرف بمساعداتهم للثوار. ثم محاولاتهم السيطرة على قيادة الحركة وماليتها.
المحاولات الانقلابية في الاحزاب اليمنية كثيره وبلغ كثير منها حد التآمر على الرفاق مع السلطة بفرض الهيمنة على الحزب ولو كلف ذلك الحزب مبادئه وتاريخ نضاله.
وحدث ذلك ايضا في المنظمات المدنية ولعل البعض يتذكر قصة الصوفي والمعهد الديمقراطي الذي حلت المشكلة فيه بالمسدسات. ولم يحدث ان استقرت الامور في حزب او منظمة الا عندما يكونان حكوميين. الا ان الصراعات في الحزب الممسك بالسلطة عندنا قد تنفجر حتى تصل حد الذبح على الهوية والقتل الذريع شهوة الى السلطة كما في احداث 13 يناير 1986 في الجنوب.
وبالبحث لم اجد حزبا او منظمة غير حكومية نجحت واستمرت وكان مؤسسوها وقادتها متحدرين من مناطق القبائل الشمالية او من القبائل البدوية. والسبب في ذلك راجع الى التخلف.
التخلف والتقدم موضوع نال اهتمام الكثير من المفكرين والكتاب، سعيا إلى اكتشاف الأسباب والقوانين المؤدية إلى ديمومة التخلف أو الانعتاق منه، وسلوك طريق التقدم. وغالبا ما يجري تشخيص أسباب التخلف في أسباب خارجية وأسباب داخلية تتعلق بهيمنة القوى الاستعمارية أو الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار على التوالي.
وسأحاول اليوم تقديم مقاربة مختلفة تتناول الهمجية والحضارة كأسس ومسببات للتخلف والتقدم.
لقد ارتقى الإنسان من حال الهمجية التي تشبه الحالة الحيوانية عبر قرون متطاولة من الجهد والإبداع الإنساني والقيادة الرشيدة. ولما كان الجهد والإبداع الإنساني أمرين ميسرين لكل البشر يحكم تساويهم في الخلق والإمكانيات الذهنية والبدنية مع فروق طفيفة، فإن القيادة الرشيدة هي في رأيي أهم أسباب التقدم كما أن القيادة غير الرشيدة أهم أسباب ديمومة التخلف.
والرشد حالة ثقافية تتعلق بمستوى التحضر الذي بلغته البيئة التي ينتمي إليها الفرد الرشيد، ونوعية ومستوى التربية الذي منحته هذه البيئة للفرد. والهمجية والتحضر حالتان تكتسبان بالتربية والقدوة، ومن دواعي الأمل أنها ليست مسألة جينية بل مسألة تربية لابد من اكتسابها منذ عمر مبكر، أي منذ سن الطفولة الأولى، حتى يتعزز السلوك المتحضر ويقمع السلوك الهمجي. إذ أنه إذا شب المرء في أسرة ومجتمع يعيشان حالة الهمجية، فإن اكتسابه للسلوك المتحضر يصبح أمرا مشكوكا فيه.
ولذلك فإن مجتمعات كثيرة توفرت لها قيادات متحضرة رشيدة تمكنت من مغادرة عالم التخلف إلى فضاء التقدم والرقي في زمن وجيز.
(1)
الهمجية والحضارة
الهمجية حالة حيوانية أو قريبة من الحيوانية، يعيشها الأفراد، وتعيشها المجتمعات، وتتميز بالبساطة والعفوية، والخضوع التام للغرائز الطبيعية البدائية للنفس البشرية فتطبع سلوك الهمجي بطابعها في كل ما يفعل ويدع.
وبالمقابل الحضارة حالة من التقدم والرقي يعيشها الأفراد وتعيشها المجتمعات وهي كحالة متقدمة في المسيرة البشرية تتميز بالتعقيد فتطبع سلوك الشخص المتحضر بتقاليد وأساليب تصرف تتميز بضبط الغرائز، وترقية السلوك، ورقي الاهتمامات، والسمو بالنوازع الغرائزية وتصريف طاقاتها في أنماط من السلوك أكثر رقيا وتهذيبا.
وكمثال على ذلك فإن ملاحظة المدن وسلوك أهل المدن والأرياف وسلوك أهل الأرياف في المجتمع اليمني يمكن أن توضح الفكرة.
وعندما أقول أهل المدن، فإني اعني بهم أولئك الذين قطعوا علاقتهم بالأرياف، وعصبيتها العشائرية، وأنماط عيش أهلها منذ أجيال فأصبحوا مدنيين تماما، إذ أن هناك في المدن قبائل وعشائر وريفيين وثيقي الصلة بمجتمعاتهم الأصلية، وعاداتها وتقاليدها، وأساليب تفكيرها وسلوكها، وهؤلاء ليسوا من أهل المدن بطبيعة الحال وان عاشوا فيها. وهذا المقال ليس في ذم البدو وأهل الأرياف والقبائل، وإنما هو توصيف للواقع سيختلف معه الكثيرون، إما تعصبا، وإما بتأثير النزعة الرومانسية التي بالغت في مدح الهمجي والهمجية (روسو)، أو بالغت في مدح مجتمعات الفلاحين (تولستوي) الخ.. ومن ثم بتأثير من تأثر بالرومانسية من الكاتبين بالعربية.
ومن نافلة القول: ان في كلا البيئتين المدينة والريف حالات فردية تخالف التوصيف العام إلا أن هذا من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فما أصفه هنا يتناول الغالب الأعم.
(2)
لو أنك أخذت سكينا ضخماً وقطعت قطاعا في منتصف شارع في المدينة كما تفعل مع قالب (الكيك) فإنك سترى آثار الحضارة متمثلة في منجزات الهندسة من أسفلت، وما تحته من طبقات من الحصى وغيره، وسترى في الأسفل كابلات الكهرباء، وأنابيب المياه والمجاري، وعلى السطح سترى فنونا من الأعمال الهندسية في المباني، ثم الرصيف وما عليه من أعمده كهرباء وإعلان وأشجار، والشارع المسفلت وما فيه من خطوط وإشارات وفتحات مغطاة للمجاري والمياه والكهرباء، وسترى فنونا من العمارة المخصصة لأغراض متنوعة إلخ.
وبالمقابل إذا فعلت الشيء نفسه في القرية سترى حالها طبيعية لا أثر فيها للجهد والإبداع البشريين.
(3)
والحضارة مرتبطة بالجهد المنظم والإبداع الذي يخدم هذا الجهد ويجعله مفيدا، فالمدني الذي يهتم بالتعليم هو صانع الحضارة فكرا و تخطيطا وتصميما، وتجد هذا الإبداع ظاهرا في مختلف جوانب حياته فهو يهتم بالآداب والفنون، والعلوم العملية من هندسة وطب وغيرها. بينما يعيش الريفي حالة طبيعية حيث يحصر همه في تحصيل المال من أي سبيل، وتنمية القوة الهمجية للسيطرة على الآخرين وعلى ممتلكاتهم ضمن تكوينه الاجتماعي العشائري القبلي، الذي يعتبر كل من هو خارج العشيرة والقبيلة غنيمة مباحة، فيمكن له قتله ونهبه. وهي ثقافة كان لها أكبر الأثر في الصراع المستمر بين الريف والمدينة، وبين اهل الارياف واهل المدن. وهو صراع شهد حوادث مروعة من النهب والسلب والاغتصاب الذي مارسه الريفيون ضد المدن وأهلها في صفحات دامية ومخجلة في التاريخ القريب والبعبد، ناهيك عن الاحزاب والمنظمات.
(4)
وفي السلوك تجد لدى المديني أصولا للحديث والتصرف مع الآخرين يعتبر من يخرج عنها قليل الأدب حتى إذا تعرض للاستفزاز، بينما يقوم الريفي بقول كل ما يخطر على باله، ولا تردعه إلا فوارق القوة التي قد ترد عليه تصرفه بأذى مباشر في التو واللحظة، وهو ميال باستمرار لحل خلافه مع الآخر بالقوة العارية والصوت العالي والشتائم.
وفي تربية الأطفال تكثر الموانع والحدود لدى أهل المدن. فيكثر قول لا، ولا يجوز، وعيب، بينما يترك أهل الأرياف أطفالهم ينمون ويتصرفون على سجية غرائزهم ونوازعهم الحيوانية البدائية.
وفي الغايات والأهداف يركز المدني على التعلم واكتساب المعرفة، بينما يهتم الريفي بالمال والسلاح كمظهر للقوة والرقي الاجتماعيين، ووسيلة لتحسين ظروفه ومستواه الاجتماعي، ويستخدمهما دون تردد ضد الآخرين، ولا يمنعه عن ذلك وازع ديني أو أخلاقي.
ويتناسب الرقي في السلوك طرديا مع الوضع الاجتماعي للمدني، حيث تكون الطبقات المتعلمة أكثر رقيا في سلوكها من فئات التجار والصناع والعمال الأقل تعليما.
(5)
ومن الواضح أنه كلما ازداد المجتمع رقيا وحضارة كان التفاوت في السلوك بين أهل مدنه وأهل مدن المجتمع المتخلف كبيرا. ومع ذلك فإن الحضارة ذات طابع مادي أي أنها تتقدم وتنتكس نتيجة للظروف التي تطرأ على المجتمعات البشرية. ولكن الذين اكتسبوا قدرا من التحضر ينقلون ذلك إلي الأجيال اللاحقة.
فنجد مجتمعات أفريقية وأسيوية فقيرة يتميز أهلها بقدر كبير من الرقي والتعقيد في أوجه سلوكهم. حتى لو حول تغبر الأحوال مجتمعاتهم إلى أرياف.
وقد نجد مجتمعات مدينية غنية الآن، بفعل صدفة نفطية مثلا، يعيش أهل مدنها الهمجية بأوضح مظاهرها، على الرغم ما يحيط بهم من أسباب الترف، وذلك لأن الرقى في السلوك يتطلب أزمانا من التعليم والتحضر، ولكن عند ما تنزع هذه المجتمعات إلى الانعزال وعدم الاختلاط بالأمم المتحضرة لأسباب أيديولوجية أو عنصرية، فإن عملية الانتقال من الهمجية إلى التحضر تطول وتتأخر.
(6)
أنتجت مجتمعات البداوة في الجزيرة العربية أيديولوجيات دينية ترى الحالة المثلى في العودة بأحوال المجتمع والناس وأساليب عيشهم إلى ما كانت عليه في القرن السابع الميلادي ،الأول الهجري. وقد كانت مكة والمدينة بيئات أكثر تطورا من البيئة التي أنتجت الأيديولوجية السلفية الوهابية، التي أصبحت تمثل خطرا داهما على المجتمع اليمني، تسعى لحكمه وفقا لصيغة طالبان الأفغانية الموغلة في الهمجية والتطرف.
ولم يكن من الممكن للدولة الإسلامية أن تنتج حضارة ذات بال لو كان حكامها من هذا الصنف البدوي، من المؤكد أن حصر الخلافة في قريش، وهم سكان أهم حاضرة في الجزيرة العربية، وأكثرها تحضرا قد ساعد على سلوك الدولة مدارج الرقي والتقدم، ومكنها من وضع أسس بناء الحضارة الإسلامية، التي قامت على أكتاف أبناء الحضارات العريقة المجاورة المفتوحة.
(7)
علاقة الريفي بالمرأة علاقة ملكية بالأساس، فالريفي يعتبر الدفاع عما يعتبره ملكه أساس رجولته ومحور كرامته، في الوقت الذي يعتبر فيه أيضا قدرته على التعدي على أملاك الغير دليلا على القوة والرجولة. تماما كما في مجتمعات القرود. ولهذا فإن الريفي، ومن هذا المنطلق، لا يعترف للمرأة بأي حق في الملكية كالميراث على سبيل المثال. وعلى الرغم من كونه حقا يفرضه الدين، فهو يضرب بهذا الحق عرض الحائط ويرفض توريث المرأة . وإذا اضطر إلى ذلك فإنه يفرز لها أقل وأردأ ما يمكن من العقارات. حتى أن الأسر في الأرياف بينها اتفاق ضمني على عدم المطالبة بمواريث النساء، حيث يعتبر من يطالب بحقوق زوجته شخصا غير سوي وناقص الرجولة، وهذا بعكس المدني الذي يعتبر إعطاء المرأة حقوقها مفخرة له، ويعتبر حرمانها من حقها منقصة ومسا باعتباره كشخص سوي.
علاقة الملكية التي يفرضها الريفي على المرأة يجعلها عرضة للعنف الشديد من قبل الرجل إلى درجة القتل عند أول اشتباه حول علاقة عاطفية خارج الزواج بشخص ما سواء كانت ابنة أو أختا أو زوجة، وغالبا ما تمر هذه الجرائم دون عقاب، حيث يتواطأ المجتمع الريفي على الجريمة، ويحرص على عدم تعرض المجرم للعقاب. بل أنني اعرف شخصيا عن حالات في قريتي قام فيها الزوج بقتل زوجته لأسباب عاطفية، فيعتبره أهلها بطلا، ويقومون بتزويجه بأختها تعويضا ومكافأة. ويعتبر الزوج ممتلكات زوجته إذا كان لها أملاك ملكا له، فيفك أزماته المالية بالتصرف بأملاكها، مبقيا أملاكه دون مساس.
(8)
صحيح أن الريفي يتمتع بخصال إيجابية كالنجدة والتعاون مع نظرائه عند الملمات، ولكن هذه الصفات إنما هي نتيجة واقعة الاجتماعي العشائري والقبلي، الذي يفرض أنواعا من التكافل الاجتماعي لا بد له من القيام بها كثمن للحصول على رضا الجماعة والقبول به من قبلها وتقديرها له.
وعلى الرغم من أن الفوارق الكبيرة في السلوك والاهتمامات بين المدني والريفي راجعة إلى عوامل سياسية واجتماعية جعلت المدنية مركزا للحكم تصب فيه الخيرات التي ينتجها المجتمع، ويستولي فيها قادة المجتمع المدينيون على نصيب كبير من هذا الناتج، الأمر الذي يتيح لهم التعلم والتأمل والبناء والإبداع، إلا انه تظهر دائما في المجتمع البشري إيديولوجيات تمييزية تؤكد على الامتياز السلالي والعرقي كمبرر للاستحواذ على الثروة والقوة الخ.. وهذا مشاهد في كل المجتمعات حول العالم، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود تميز حضاري للمدينة على الريف، وللمديني على الريفي، يظهر في كل نواحي السلوك وأساليب العيش وطبيعة العلاقات مع الآخرين. وهذا التميز يرجع إلى التربية والثقافة وأحوال الاجتماع في المجتمع الإنساني، ولا يمكن أبداً إرجاعه إلى نزعات التميز الأيديولوجية. ذلك أن ما هو واقع تاريخي واجتماعي لا يمكن القول أنه مجرد ظاهرة أيديولوجية. فالمقولات الأيديولوجية التي تشرع التميز الاجتماعي على أساس من العرق، واللون، والسلالة، والدين والمذهب، يرُاد بها أن تخدم أغراضا سياسية، ولكن الفوارق بين الهمجية والتحضر قائمة على الرغم من كل ذلك ولا يمكن إحالتها إلى مقولات أيديولوجية، بل هي قائمة على التربية والثقافة وتغير الواقع الاجتماعي المتحضر الذي لا يثبت إلا غير فترات متطاولة من الرقي المستمر.
(9)
على طريق التمدن ينتقل أهل الأرياف إلى المدن في ظاهرة اجتماعية متنامية في العالم كله. ولكن ما يحدث في بلادنا على وجه الخصوص، وفي العالم العربي بشكل عام، يشير إلى عملية عكسية يتم من خلالها ترييف المدن بدلا من تحضير الأرياف. وقد أدى تمكن الريفيين من السيطرة على مراكز القيادة العليا في المجتمع إلى استبعاد العناصر المدنية المتحضرة لصالح العناصر الهمجية، التي ستعمل على طبع المدينة بطابعها أولا، ومن ثم المجتمع كله، لتقوده إلى طريق خطر من التمزق السياسي والعنصري والمناطقي والقبلي العشائري.
وتشاهد في العالم العربي عملية هجرة أو تهجير منظمة للعناصر المتحضرة من المجتمع، والتي لا تستطيع التلاؤم مع همجية الريفيين المسيطرين على مفاصل القوة والثروة في المجتمع. فيبدأ المجتمع بخسارة أكثر عناصره قدرة وتحضرا وعلما وتقع كل خطط التطوير والتحديث والتنمية، حتى تلك التي يدفع إليها المجتمع الدولي، في الفشل نتيجة لطبيعة الممسكين بالسلطة.
فالريفي يتعامل مع ثروة المجتمع وممتلكات الدولة بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع ممتلكات العشيرة أو القبيلة الأخرى ، أي أنها تكون في نظره صالحة للنهب والاستباحة.
ويصبح التعذيب والقتل واستخدام القوة العسكرية هي السبل المفضلة لمعالجة المشكلات والتباينات الاجتماعية، وتصبح السيطرة الشخصية والعائلية على مؤسسات القوة الأمنية والعسكرية وأجهزتها المختلفة هدفا رئيسيا لدى القادة الريفيين الذي يحملون ثقافة حل المشكلات مع الآخر بالعنف.
وعلى سبيل المثال فإنه في فترة ما قبل الثورة 23 يوليو لم تعرف مصر التعذيب في السجون على الرغم من محاولات إلصاق ذلك بالأنظمة من قبل كتاب وأدباء من أنصار الانقلاب، كقصة العسكري الأسود ليوسف إدريس على سبيل المثال، بل أن مذكرات السياسيين الشيوعيين والقوميين والاسلاميين المعارضين للسلطة الملكية وحكوماتها المختلفة، نصف مواقع الاعتقال وتصور معاملة انسانية راقية في هذه المواقع. ولم يسمع الناس بحالات التعذيب الوحشية كالتي جرت في السجن الحربي والمعتقلات إلا في فترة ما بعد الثورة.
وقد ارتكب العسكريون العراقيون والحزبيون القادمون من الأرياف، والذين استولوا على السلطة في العراق مجازر فظيعة في البلاد، وادخلوها في دوامة من العنف والتمزق والمغامرات أوصلتها إلى الوقوع تحت الاحتلال الأمريكي في نهاية المطاف.
وكذلك كان الحال في سوريا التي استولى عسكريوها وحزبيوها الريفيون على السلطة فأوصلوها إلى واقع يملؤه الاغتيال والعنف.
ولا يكاد يخلو بلد عربي من ظاهرة سيطرة الريفيين على السلطة وما أحدثه ذلك من تمزقات وعنف، كانا من أسباب إدامة تخلف العالم العربي.
(10)
في الأنظمة التي تسنم الريفيون فيها مراكز القيادة على أساس من أيديولوجيات تقدمية، نجد أنهم سرعان ما انتكسوا إلى مستويات متدنية من الصراعات القبلية والعشائرية التي نقلوها من بيئتهم المتختلفة إلى بيئة الدولة، التي يفترض أنها حديثة، ولم ينج من هذا المصير القوميون أو الاشتراكيون على اختلاف تجاربهم.
إن قيادة نخبة متحضرة لبلدانها عامل رئيس في انعتاق البلد من التخلف، والسير في طريق التحضر والرقي. لقد لجأت حكومة سنغافورة إلى تجريم البصاق في الشوارع، وإلقاء العلكة وأعقاب السجائر، واتبعت معايير صارمة في مراقبة السلوك العام للفرد، بغرض مساعدته على التخلص من همجيته، ونقله في مدارج التقدم والرقي، حتى أنها وضعت خططا وتنظيمات لمنع استمرار تزاوج القطاعات المتخلفة والهمجية ببعضها، وعملت على تشجيع الزيجات التي تجمع المتحضر بالهمجي لتعديل سلوكه وقيمه.
وهكذا فإنه لا يمكن أن تتوقع من همجي بعيد عن التحضر أن يقود أي مجتمع إلى الرقي والتحضر، بل إنه على العكس من ذلك يتكفل بالقضاء على بؤر التحضر في المجتمع ويعيده إلى الخلف أشواطا بعيدة في اتجاه الهمجية.
(11)
عندما يتولى الريفي مسؤولية أي موقع رسمي، فإنه يسارع إلى التصرف من وحي ثقافته العشائرية، ويسعى إلى ملء المرفق أو الوزارة التي يرأسها بأفراد عشيرته وأقربائه، وفي سبيل ذلك يشرع بمحاربه الكفاءات التي يعتقد أنها تقف عقبة أمام مطامعه الخاصة، وتبدأ سياسات التهميش (والتطفيش) تمارس بكل قوة، لتفرغ الحزب از المنظمة او المرفق أو الوزارة من الكفاءات والقوى المتحضرة لصالح المزيد والمزيد من سيطرة التخلف والهمجية.
وحتى الريفي الذي يحمل درجة الدكتوراه، تجد أن علمه ليس إلا قشرة سرعان ما ينسلخ منها عند ما يصل الأمر إلى المنافسة والسيطرة، حيث يعود إلى ممارساته الثقافية المتأصلة ذات الطابع الهمجي، والتي كما قلنا يتطلب الانسلاخ منها آمادا متطاولة، وقطيعة مع الواقع الاجتماعي المنتج لها، وهو ما لا يحدث لهذا الدكتور الريفي المحاط بقرابته وعشيرته الهمجية المتخلفة، والذي يطمع إلى الوصول إلى موقع التميز والقيادة فيها، ويتطلع إلى اعترافها بمواهبه طبقا لمفاهيمها الهمجية، وليس وفقا لمعايير الحضارة والتطور التي اكتسبها.
(12)
وفي الميدانين الإعلامي والثقافي يلاحظ المراقب أن الريفيين الذي يعملون في مجال الإعلام يسارعون في الانضمام إلى الأنظمة التي يقودها الريفيون ويروجون لمعاييرها الهمجية ويحملون صورتها بكل ما أوتو من قوة.
ومن جهة أخرى تجدهم يسارعون إلى الدفاع عن قبيلتهم أو منطقتهم وفقا لمعايير التعصب العشائري، ذلك أن الثقافة التي اكتسبوها ليست إلا قشرة لم تتجذر ولم تثبت، فسرعان ما تتقشر ليبدو من ورائها الطبع الهمجي المتخلف لثقافة الشخص الذي لا يستطيع الانسلاخ من ثقافته تلك، أو الالتزام بالقطيعة معها.
بل إن المراقب يلاحظ تكون حلقات طائفية ومناطقية وقبلية بين المثقفين، وهم يمارسون تحزباتهم الهمجية في دوائرهم بصورة صارخة.
ومن نافلة القول: أن هذا الفرق التحضر والهمجية يتجلى في أسالب الحياة والعيش في أوجهها المختلفة، من اللباس، والطعام، والسكن، والاهتمامات الشخصية، وأسلوب الحديث، وطريقة التعامل مع المال العام، وفي الالتزام بالأنظمة والقوانين المختلفة، إلى آخر ذلك من أوجه العيش والسلوك. وهي حالة تختلف عن الحالة الهمجية اختلافا صارخا لا يمكن الخطأ بشأنه، لأنها تتعلق بالفرق بين انفلات وانضباط الغرائز، وبين الهمجية والحضارة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.