من دولة المدينة في اليونان انبثقت حضارة الإغريق ، ومن قلب مدينة روما بنى الروم أعظم إمبراطورية في التاريخ الإنساني، وكانت المدن الإيطالية التي نشأت في العصور الوسطى هي المقدمة التي أشعلت النور في الظلام الدامس الذي كان يهيمن على القارة الأوربية، ومن المدينة بدأت الثورة الفعلية المنتصرة للإنسان والمدينة وحدها في العصر الحديث تمكنت من تفكيك البنية الاجتماعية والفكرية والدينية والاقتصادية القديمة وأسست لعصر مختلف من نور العقل. ومع نمو المدن في أوربا اجتاحت الثقافة الجديدة التي أنتجتها المدن وعي الناس، وكانت المدينة هي المؤسس لقوة الملوك فقد لعبت الدور الفاعل والأساسي في بناء الدولة القومية الحديثة، والانقلاب التاريخي في أوروبا لم يكن ليحدث بدون المدينة وثقافتها المختلفة المنتمية للإنسان. والمتتبع لتاريخ العالم سيجد أن المدينة هي المؤسس الفعلي للتقدم. ويمكن القول إن الإسلام لم يظهر في التجمعات البدوية المتنقلة بل كانت مكة حاضرة الجزيرة العربية بثقافتها المنفتحة على العرب وبمركزيتها التجارية والثقافية هي المكان الذي نزل فيه الوحي، وكانت يثرب هي المدينة التي أسست فيها الدولة الإسلامية الأولى وفق معايير وقيم إنسانية، وعندما توسعت الدولة لاحقا لم تعد المدينة ولا مكة رغم القدسية الدينية قادرتين على استيعاب الحراك الحضاري في بنية الدولة، لقد انتقلت العاصمة إلى بلاد الشام الغنية بالموارد وبالتجارب الحضارية الممتدة عبر التاريخ والقادرة على مدّ الدولة الناشئة بالحياة أيضا بحكم موقعها الجغرافي، لقد أدرك معاوية الداهية والخبير السياسي - رغم تحيزه الأموي وحرف طبيعة منظومة الحكم الراشدة - أن جزيرة العرب وثقافة القبيلة والوعي الإعرابي كفيل بخنق الدولة الوليدة فأخرجها من المدينة وجزيرة العرب إلى حاضرة الشام، وبالقبائل العربية رسخ قوة الدولة بعد أن عزل البداوة ووعيها عن الدولة وعمل على إشباع رغبات القبيلة بالحروب وتوزيع الغنائم، وجندها بالعقيدة لحماية الدولة وتوسيع سلطانها. أعداء المدينة في الحضارة الإسلامية عبر عنها الخوارج وهؤلاء يمثلون قوى قبلية وبدوية اعتنقت العقيدة الإسلامية وقرأوها بوعيهم القبلي فاختنقت العقيدة وتحولوا إلى قوة مقاتلة تكفر كل من يخالفها، وبروح البداوة وشدّتها واجه الخوارج دولة بني أمية بصرامة عقائدية متطرفة، وبروح قتالية مستبسلة من أجل الحق الذي اعتقدوه، وفي ظل هزائمهم المتلاحقة ونبذ الأمة لهم و أصبح الخوارج منظمات سرية حولت الدين إلى سياسة وقاتلت من خلالها ومارست الاغتيال للنخب الدينية والسياسية، ولكنها انتهت وأصبحت ذكرى عابرة، إلا أن التاريخ يكرر نفسه وها هو وعي القبيلة المناهض للمدنية والحضارة يخلق خوارج العصر في كل اتجاه. ولم تبلغ حضارة الإسلام أوج عطائها إلا في مدينة بغداد التي كانت أعظم مدن الأرض وتاريخ المدينة وساكنيها وما أنتجته من فكر وثقافة جعلها معجزة إنسانية تؤكد عظمة الحضارة الإسلامية، وعندما اجتاحت البداوة الدولة العباسية بدأ أفول الحضارة الإسلامية. ويمكن القول إن أزمات العرب في العصر الحديث وفشل مشاريع النهوض العربي أحد أسبابه الرئيسية أن المدينة مازالت غائبة فالمدن العربية في أغلبها مدن مشوهة فقد ابتلعتها روح الريف وثقافته وقيم الوعي القبلي. وأهمية المدينة أنها تنتج ثقافة منتمية للإنسان وتعمل على ترسخ المجتمع المدني القوة الكفيلة بتأسيس الدولة المدنية والتجارب البشرية في عصرنا تؤكد أن المجتمع المدني لا يمكن انتاجه إلا بالمدينة وهو وحده لا غيره القوة القاهرة للتخلف، والقادر على إحداث قطيعة مع الثقافة التقليدية، وتجاوز التكوينات الدنيا القائمة على العصبية والفئوية والمناطقية والعرقية والمذهبية، مع ملاحظة أن المجتمع المدني لا ينفيها بل يعمل على تأسيس هذه التكوينات الطبيعية كأوعية للتعارف والتعاون، ويحافظ على هويتها الأولية، بعقل مفتوح، ويتجاوزها لصالح هوية أكبر هي قيم لعيش المشترك، لتصبح هي أصل الولاء والانتماء والتي تتجسد في الدولة ودستورها وقيمها الحديثة. وخيار المجتمع المدني خيار تقدمي لأنه يؤسس لآليات فكرية وقانونية تقنن الصراع وفق قيم عليا يشكل الحوار وقبول الآخر والحفاظ عليه والدفاع عن حقوقه ومصالحه وقبول التنوع أهم تلك القيم، والمجتمع المدني لا ينمو ويعيش إلا في السلم، وأعضاؤه لا يرفعون البندقية، ولا مرافقون لديهم لأنهم لا يخافون من أحد، ولا ثأر لديهم ، لان أصل تكوينهم الفكري مؤسس على احترام الإنسان وحقوقه، نضالهم من أجل أخيهم الإنسان أيا كان موقعه في الحياة، والقانون هو الحامي لهم لا القبيلة. والمجتمع المدني ليس ضماناً للعيش المشترك فحسب، بل هو روح الدولة، فالدولة لا يمكنها ان تعمل وتقوى إلا بالمجتمع المدني، مما يجعل المجتمع المدني مرتكزا جوهريا في حماية الأمن القومي وحفظ كيان الدولة، أما القبيلة فإن طبيعة تركيبتها صراعية تجزيئية مغلقة متعصبة عنصرية عنفية، وهذه الصفات البنيوية في وعي القبيلة تجعلها متناقضة مع المجتمع المدني القائم على التسامح وقبول الآخر وعلى الإخاء والمساواة..وبناء المجتمع المدني وفق آلياته التي تنتجها ثقافة المدينة، يسهم في توزيع السلطة، بعكس القبيلة التي تسعى نحو تركيز السلطة بيد أشخاص بعينهم وفق آليات لا تخضع للكفاءة وتكافؤ الفرص والمساواة، والمجتمع المدني ينشر الأمن والاستقرار والإبداع، أما القبيلة عندما تعمل سياسياً فإنها تصنع التوتر والصراع والكراهية والتناقضات المؤسسة للعنف، والقبيلة نتيجة محاصرتها للفرد فإنها تخنق الإبداع وهذا يضعف المجتمع وتطوره بعكس المجتمع المدني الذي ينمي قدرات الفرد ويحرره من قيوده حتى يصبح قادرا على خدمة الانسان. والقبيلة تقوم على الجبر، والمجتمع المدني طبيعته تعاقدية، ومحاولة سحب تقاليد القبيلة إلى المجتمع المدني تمثل ممارسة فاسدة تخرب القبيلة بإعادة تفعيلها بصورة صراعية في العملية السياسية وتشوه المجتمع المدني وتعمل على تدمير تكويناته الناهضة القائمة على التعاقد وبالتالي تهديد كلي للدولة وقيمها المعاصرة، وهذا أعلى مراحل تهديد الأمن والاستقرار الاجتماعي. فالقبيلة عندما تحتل الدولة فإنها تلغيها وتقودها إلى حتفها، لأنها تؤسس للصراع والدمار والتنازع على أسس غير مدنية، وهذا يفكك المجتمع ويلغي الدولة ويدمرها ويجعل المجتمع فرقاً شتى تتصارع على حق الحياة ليس إلا. ولابد ان نشير هنا أن المدينة منظومة متكاملة من القيم والمبادئ يرتبط مصيرها بالمجموع، هذا المجموع هو مخلوق جديد تحدد نمط الحياة فيه ثقافة إنسانية منفتحة إبداعية متغيرة، والمدينة تقوم على التجارة والعلم والتنوع، وقبول الآخر، والتجدد، وخلق الثروة، والقانون، والسلوك الحضاري المؤسس على قيم الفردية والعدالة والمساواة وروح الجماعة وغيرها من القيم المدنية، وفي المدينة يكون الإنتاج الإنساني منسجماً مع الثقافة العامة المهيمنة وهي ثقافة ينتجها الواقع الموضوعي المتجدد بشكل دائم، فالإبداع والتقدم هما نتاج طبيعي للمدينة وبدونهما تفقد المدينة وجودها. المدينة إذا سيطرت ثقافة القرية عليها ولم تتمكن من إنتاج ثقافة متوائمة مع طبيعتها فإن المدينة تصبح بناء مزيفاً عاجزاً عن القيام بدوره الريادي في صناعة التقدم، فسيطرة ثقافة القرية تجعل التفاعل في بنيتها ينتج قيم القرية التقليدية ووعيها، وعندئذ تصبح المدينة مصدرا لإنتاج التخلف وبدل أن تطور المدينة الريف وتُأثر فيه يتم إعادة تصدير الريف من المدينة ولكن بصورة بشعة ومشوهة. والمدينة هي المدخل الأكثر فاعلية لإنتاج الوعي الجديد بشرط أن تكون محكومة بآليات العصر ومنطقه حتى تكون قادرة على صناعة التقدم، أما استيراد الأشكال المعاصرة وتفعيلها بمعزل عن ثقافتها في بيئة تقليدية فإن تلك الأشكال تتحول إلى أدوات لتعميق روح الريف في المدينة. وبفحص المدينةاليمنية سنجد أنها مازالت بعيدة عن العصر، لأن تطورها يسير وفق ثقافة الريف ووعيه ومنطقه، وهذا يفسر عجزها عن إنتاج ثقافة المدينة، ورغم المحاولات المبذولة لتفعيل المدن بآليات معاصرة، إلا أن المدينة تسير وفق الوعي التقليدي المهيمن، وهذا يفسر بدوره قوة تأثير القوى التقليدية على حركة المجتمع والدولة. فالآليات السياسية الحديثة مثلاً كمدخل جديد على بيئتنا التقليدية لا يمكنها العمل بشكل صحيح إلا وفق الوعي الذي أنتجها وهو وعي المدينة، وغرسها في بيئة ثقافية تقليدية ومع امتلاك القوى التقليدية آليات السيطرة والهيمنة فإن تلك المؤسسات تفقد فاعليتها، حتى في حالة الرغبة التامة في التغيير من قبل بعض القيادات فإن المؤسسة لا تقوم بوظائفها بشكل كامل، أما في حالة الخوف من التجديد وكبت الإبداع في المجتمع، فإن الثقافة التقليدية تصبح هي المتحكم في عمل المؤسسة وهذا ما يجعلها تبدو مشوهة وناقصة. وعلى الرغم أن المؤسسة السياسية الجديدة أثناء تفاعلها مع الواقع تنتج ثقافتها، إلا أن التغيير يكون بطيئا ويأخذ وقتاً طويلا، وفي حالة ضعف القوى الجديدة المنفعلة مع الثقافة التي أنتجت الآلة، وفي ظل وجود قوى متخلفة وجامدة وعصية على التغيير فإن الثقافة المحلية تتغلب على المؤسسة السياسية الجديدة، وتحولها إلى أداة لترسيخ شرعية من يمثل التقاليد، وتعمل المؤسسة الحديثة على إعادة إنتاج الوعي المجتمعي بصورته التقليدية. وما يعمق من الإشكالية ويخنق التغيير أن المدينة غائبة. إن التعجيل بعملية التغيير في اليمن يتطلب مدينة معاصرة ولو بالحد الأدنى وتمتلك مؤهلات التحول لصالح العصر، على أن يكون التريف فيها منخفضاً بحيث تتمكن المدينة من صياغة وعي جديد متطور متوافق مع العصر، وهذا لا يعني مواجهة الوعي التقليدي الداعم لحاجة المجتمع وتطوره، أي أن الوعي الأصلي الراسخ الإيجابي سيظل ولا يمكن تجاوزه، وشرط بقائه هو قدرته على تطوير الواقع وخدمته للتقدم. والملاحظ أن المدينة في اليمن ظلت حالة طارئة ومعزولة والقرية هي الغالبة، فصنعاء مثلا رغم الأساطير التاريخية المؤسسة لعظمتها ورمزيتها الطاغية في ثقافة أبناء اليمن،إلا أن صنعاء لم تبرز في تاريخ الحضارات اليمنية المتلاحقة كمركز حضاري فاعل ومؤثر، وبروزها كان مرتبطاً بالاحتلال الحبشي والفارسي وبالهيمنة العثمانية، وحكم الأئمة، أما تاريخها الفعلي ومركزيتها فمرتبط بالثورة اليمنية ومقاومتها لأعداء الثورة. وفي عهود الأئمة كانت صنعاء محاصرة بمكان محدد يحيط بها الريف والقبيلة من كل الجهات، وظلت معزولة عن المكان المحيط بها، تركزت فيها بشكل أساسي العناصر القادمة من خارج البيئة القبلية، واقتصرت الإقامة الدائمة في المدينة على النخبة السياسية من الهاشميين والقضاة وعلى الإداريين والتجار وأيضا على من يقومون بتقديم الخدمات المختلفة كأصحاب المهن، وعلى قلة من الأفراد من أبناء القبائل، ولم يكن الأئمة يسمحوا للمشايخ بالتملك والسكن في العاصمة وكانت (الخانات) هي محل إقامتهم، كما أن الثقافة القبلية كانت تحتقر أهل المدن خصوصا أصحاب الحرف، وكانت الإقامة في المدينة في ثقافة القبيلة توصم صاحبها بالعيب والنقص وقلة الأصل. نتيجة لذلك ولأسباب أخرى كانت صنعاء شبه معزولة عن القادمين إليها، وهذا سمح لها بالحفاظ على شكل مدني بدائي لم يؤثر في الريف، صحيح أن نمط الحياة فيها كان راقياً مقارنة بالمحيط لكنه لم يخلق ثقافة مختلفة عن محيطها، فالثقافة التقليدية التي كانت موجودة في صنعاء كانت راسخة، والتجديدات القادمة المناهضة للتخلف جاءت من الخارج. مع الثورة والدور الواسع الذي لعبته القبيلة في الصراع بعد الثورة، ومع قدوم أبناء الريف للدفاع على الثورة ومع تزايد دور الدولة في تقديم الخدمات، والتزايد السكاني في الريف وعدم قدرته على الاستجابة لحاجات الناس، ومع التعليم وتطور بنية مدينة صنعاء، أصبحت صنعاء مكاناً مفضلاً للهجرة وأصبحت مركزاً للتجمعات السكانية القادمة من جميع أنحاء اليمن بما في ذلك القبائل التي دخلت هذه المرة للاستيطان، ونتيجة الاستيطان الكثيف لأبناء الريف في تجمعات سكنية متقاربة فرض القادم ثقافته على المدينة. كانت الهجرة نابعة عن حاجة لذا فقد تعامل القادمون مع مسألة الاستقرار في العاصمة كضرورة، وكلما واجه القادم ضغوطاً ومشاكل لجأ إلى من يتشابه معه في العصبية المناطقية أو القبلية أو الإثنية وإن لم يتم حسم الأمر يتم اللجوء للقبيلة إما للاستعانة أو بالعودة إليها وترك المدينة.