حينما خرج الشباب اليمني الى الساحات ذات نهار من العام 2011م ، بعدما تملكهم اليأس من مستقبل مجهول، أطلقوا صرخة ظلت مكتومة لسنوات (امنحونا مستقبلا) .. لم تلامس هذه الصرخة (نخوة المعتصم) ، ولا مؤشرات في أنها لامست أسماع النخبة السياسية.. و دفعت الى التغيير المنشود الذي تطمح إليه تلك الفئة الاجتماعية التي أشعلت جذوة الثورة وغذت أوارها.. لا غرابة أن تنطلق الحركة الاحتجاجية في اليمن من هذه الشريحة الاجتماعية ، الباحثة عن ذاتها ،لأنها الأكثر التصاقا ومعاناة من الواقع المتردي الذي أنتجه عجز النظام السياسي في تحقيق مستويات مقبولة من التنمية وفي تأمين مستقبل مشرف لها . فأزمة النظام السياسي استدعت القوى الاجتماعية للانتفاض بغية تغيير الواقع والوصول الى حلم أجمل.. إلا أن الحلم ظل كذلك، ولا مؤشرات لتحققه واقعا، بعد أن تصدرت النخبة السياسية والعسكرية الثورة ، وهي التي كانت حتى وقت قريب جدا جزءا من النظام ، بل دعامة أساسية له.. وفي الثورات هناك دائما جانب مظلم موحش، إذ تقود الى طغيان النخبة السياسية على القوى الاجتماعية الباعثة للحركات الاحتجاجية، باعتبار أن دورها ليس حاسما، وإن كان أساسيا، فهي تشعل الشرارة فيما غيرها يجني الثمار. طغيان السياسي على الاجتماعي في الثورة يسمح بالتنبؤ بمستقبلها ، التي غالبا ما تقود الى الديكتاتورية إلا عندما تلفظ أنفاسها: الثورة الفرنسية 1789م والبلشفية في روسيا 1917، آلت الأولى الى ديكتاتورية نابليون وإمبراطوريته، فيما انتهت ثورة البلاشفة الى ديكتاتورية الحزب الواحد.. في ثورة الجزائر 1962م بعد عزل بن بيلا قائد الثورة وملهمها الأول سيطر الجيش على السلطة، عوضا عن القوى الاجتماعية للثورة، والحال ذاته في ثورة الخميني الإيرانية 1979م التي طوحت بآمال الجماهير في الحرية لتخلق ديكتاتورية ثيوقراطية أحصت على الناس أنفاسهم. .. وعند دارسي الثورات ، لازال هناك خلاف في كون الثورات تأتي من أعلى حيث للنخبة السياسية اليد الطولى في تفجيرها، أو من أسفل حيث المكون الاجتماعي هو دافعها الأول .. ففي حين كانت النخبة السياسية كغاندي ونهرو ولينين وكاسترو هي من قادت الثورات في الهندوروسيا وكوبا، فإن الثورة الفرنسية مهدت لها الفئات الاجتماعية الكادحة حين انتفض الفلاحون العام 1789م ليمهدوا الطريق لثورة الرابع من أغسطس من نفس العام .. إلا انه في الحالتين ، تصبح الغلبة للنخبة السياسية لا للمكونات الاجتماعية، فالمكون الاجتماعي للثورة خليط لا صوت له ، و بالأحرى ذو أصوات متداخلة ملتبسة، يغلب عليه عقلية الحشد وينحو باتجاه الجموح العاطفي ما يسهل على النخبة السيطرة عليه وحرف مسار الثورة لما يحقق مصالحها لا مصالح العامة. وحينما تعالت الصرخات في ساحات الاعتصامات في اليمن مبكرا من محاولة اختطاف على الثورة وسرقتها، عدَّ الأمر كمزحة سمجة ، إذ الثورة ليست (علبة فول) لتسرق ، لكنها كانت كذلك.. ولتثبت الأيام صحة ما يخشاه الكثير. بعدها فرضت أحزاب المعارضة والقوى العسكرية والرأسمالية وصايتها الأبوية على الثورة لتحولها في نهاية الأمر الى أزمة سياسية ، فارضة أجندتها على مسارها، فيما أصبح الشباب والمكونات الاجتماعية الأخرى على هامش الحياة السياسية وربما خارج أي ترتيبات مستقبلية ، وأضحى الأمر تقاسما للسلطة بين وجهي النظام :السلطة والمعارضة.. النظام ذاته الذي خرج الشعب لإسقاطه... وهناك فرق بين الثورة وبين الاستيلاء على السلطة باسم شرعية ثورية كما يرى جورج أوريل. ورغم أن توقيع المبادرة الخليجية كان إيذانا بتدشين مرحلة جديدة ، إلا أن القوى الاجتماعية للثورة لم تستوعب الأمر وظلت تمارس نشاطها بذات الأدوات والأساليب السابقة على مرحلة التوقيع .. وكان ينبغي عليها أن تخرج بأدوات وشعارات جديدة تتلاءم وطبيعة المرحلة وتحقق الغاية من خروجهم للساحات.. ما أفضى الى عزل الشباب والفئات الاجتماعية عن مسارات العمل السياسي ، لتتقاسم النخبة السياسية : المؤتمر وأحزاب اللقاء المشترك السلطة... وحده بحصافته المعهودة وبصيرته الثاقبة أدرك الدكتور ياسين سعيد نعمان التبدلات في المرحلة عندما طالب الشباب بإعادة تنظيم أنفسهم وتجديد شعاراتهم ومساراتهم لتنسجم مع الواقع الجديد.. لكنها كانت كصرخة في واد.. مع ذلك لا زال في الوقت متسع ، وبإمكان الشباب ومكونات المجتمع الأخرى إعادة تنظيم أنفسهم ، بإنشاء أحزاب سياسية جديدة ، تعبر عن روح الثورة وأهدافها، لا سيما والبلد مقبل على مرحلة الحوار الوطني الشامل المعول عليه في إعادة صياغة النظام السياسي والإداري للبلد، وهي مرحلة هامة وحاسمة في تاريخ اليمن ، ونجاحه وفشله ينعكس مباشرة على هذا البلد، ودخول الفئات الاجتماعية المحركة للثورة بقوة عبر تنظيمات سياسية في الحوار يجعل أصواتها غالبة على كثير من النخب السياسية التقليدية سواء في السلطة أو التي كانت الى وقت قريب في المعارضة.. وبذلك فقط يتحقق للشباب ما خرجوا للمطالبة به وتحقق الحركة الاحتجاجية غاياتها.. الثورة حلم اجتماعي لقوى اجتماعية وأجيال تجهل ذاتها لكنها تبحث عنها، تسعى لحرق المراحل بغية تحويل الحلم الى حقيقة.. ويجمع خبراء الثورات أن الانتفاضات لا تقوم بالتغيير لكن بدون هذه الانتفاضات لن يكون هناك تغيير.. وبتعبير آخر : القوى الاجتماعية المحركة للثورة، لا تقوم هي بذاتها بالتغيير ولن تكون أداته.. غير انه بدون حركتها الاحتجاجية لن يكون هناك تغيير ،لأن النخبة السياسية التي تسيطر على الثورة هي من يتحتم عليها القيام بالتغيير .. هذا هو واقع الثورات وتلك أدوات التغيير فيها، ما يفرض على الجميع التعاطي مع هكذا حقائق، واللعب وفق قواعده وشروطه.. وفيما يتصل بثورات الربيع العربي فالصورة ليست سوداوية تماما ، إذ رغم تعارض الثورة والديمقراطية ، كأداتين للتغيير باعتبار الأولى حركة عنيفة دموية تستهدف تغيير الأوضاع ، تتغلب فيها النخبة السياسية على المكونات الاجتماعية لتمارس ديكتاتوريتها عليها.. بخلاف الديمقراطية كتغيير سلمي للأوضاع ، يتيح للمكونات الاجتماعية الانخراط والإسهام بفاعلية في العملية السياسية.. إلا أن ثورات الربيع العربي امتلكت ملامح ديمقراطية ، فهي حركات احتجاجية سلمية لا دموية، مثلما أن ما آلت إليه سواء في مصر واليمن وتونس ودخولها مرحلة انتقالية ، يتبعها حوار وطني فانتخابات حرة كما في اليمن أو انتخابات حرة شفافة كما في البلدين الآخرين ، يجعلها تتجاوز سلبيات الثورة وجوانبها المظلمة من تصفيات دموية وأعمال انتقامية وصراعات عنيفة للوصول للسلطة عوض أن تكون الممارسات الديمقراطية كالانتخابات والحوارات طريقا لها ثم ، ما أجمل أن تعلو قيم الحب والوئام على مشاعر الحقد والكراهية والانتقام..