يحيط غموض كبير الأوصاف التي تطلق على التظاهرات السياسية العربية.فالمتظاهرون والمعارضون يسمونها عموما "ثورة شاملة" ويطلبون التعاطي معها وفق هذا الوصف والبعض الآخر يسميها انتفاضة شعبية والبعض الثالث يسميها حراكا والرابع يراها انقلابا جذريا وقد تستخدم هذه التسميات في الآن معا في هذا البلد وذاك. وعلى الرغم من تعدد التسميات فان وصف "الثورة " هي العنوان العريض الذي يحب المتظاهرون استخدامه لإعطاء بعد جذري وتاريخي لحركتهم فهل تطابق التسمية واقع الحال؟ وإن لم تطابق ما العمل ؟ للإجابة عن السؤال استشرنا "لسان العرب" لابن منظور ونقتطف منه ما يلي مع حذف وإيجاز كبير ومما جاء فيه: "ثور ة ثارَ الشيءُ ثورة وثُؤوراً وثَوَراناً وتَثَوَّرَ: هاج؛ والثَّائر: الغضبان، ويقال للغضبان أَهْيَجَ ما يكونُ: قد ثار ثائِرُه وفارَ فائِرُه إِذا غضب وهاج غضبه. وثارَ إِليه ثَوْراً وثُؤوراً وثَوَراناً: وثب. والمُثاوَرَةُ: المواثَبَةُ. وثاوَرَه مُثاوَرَة وثِوَاراً؛ عن اللحياني: واثبَه وساوَرَه. ويقال: انْتَظِرْ حتى تسكن هذه الثَّوْرَةُ، وهي الهَيْجُ. ويقال: ثارَتْ نفسه إِذا جَشَأَتْ وإِن شئتَ جاشَت؛ قال أَبو منصور: جَشَأَتْ أَي ارتَفعت، وجاشت أَي فارت. ويقال: مررت بِأَرانِبَ فأَثَرْتُها. ويقال: كيف الدَّبى؟ فيقال: ثائِرٌ وناقِرٌ، فالثَّائِرُ ساعَةَ ما يخرج من التراب، والناقر حين ينقر أَي يثب من الأَرض. وثارَ به الدَّمُ وثارَ بِه الناسُ أَي وَثَبُوا عليه. وثَوَّرَ البَرْكَ واستثارها أَي أَزعجها وأَنهضها. وفي الحديث: فرأَيت الماء يَثُور من بين أَصابعه أَي يَنْبُعُ بقوّة وشدّة؛ والحديث الآخر: بل هي حُمَّى تَثُورُ أَو تَفُور. وثارَ القَطَا من مَجْثَمِه وثارَ الجَرادُ ثَوْراً وانْثار: ظَهَرَ. ويقال: قد ثارَ يَثُورُ ثَوْراً وثَوَراناً إِذا انتشر في الأُفُقِ وارتفع، فإِذا غاب حَلَّتْ صلاة العشاء الآخرة، وقال في المغرب: ما لم يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ. والثَّوْرُ ثَوَرَانُ الحَصْبَةِ.. وحكى اللحياني: ثارَ الرجل ثورَاناً ظهرت فيه الحَصْبَةُ. ويقال: ثَوَّرَ فلانٌ عليهم شرّاً إِذا هيجه وأَظهره. وأَثَرْتُ السَّبُعَ والصَّيْدَ إِذا هِجْتَه. وأَثَرْتُ فلاناً إِذا هَيَّجْتَهُ لأَمر. واسْتَثَرْتُ الصَّيْدَ إِذا أَثَرْتَهُ أَيضاً. وثَوَّرْتُ الأَمر: بَحَثْتُه وثَوَّرَ القرآنَ: بحث عن معانيه وعن علمه. وأَثارَ الترابَ بقوائمهِ إِثارَةً: بَحَثه؛ قال: يُثِيرُ ويُذْري تُرْبَها ويَهيلُه، إِثارَةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ قوله: نباث الهواجر يعني الرجل الذي إِذا اشتد عليه الحر هال التراب ليصل إِلى ثراه، وكذلك يفعل في شدة الحر. وقالوا: ثورَة رجال كَثروَةِ رجال؛ قال ابن مقبل: وثَوْرَةٍ من رِجالِ لو رأَيْتَهُمُ، لقُلْتَ: إِحدى حِراجِ الجَرَّ مِن أُقُرِ ويروى وثَرْوةٍ. وقال الله تعالى في صفة بقرة بني إِسرائيل: تثير الأَرض ولا تسقي الحرث؛ أَرض مُثارَةٌ إِذا أُثيرت بالسِّنِّ وهي الحديدة التي تحرث بها الأَرض. وأَثارَ الأَرضَ: قَلَبَها على الحب بعدما فُتحت مرّة، وحكي أَثْوَرَها على التصحيح. وقال الله عز وجل: وأَثارُوا الأَرضَ؛ أَي حرثوها وزرعوها واستخرجوا منها بركاتها وأَنْزال زَرْعِها. وفي الحديث: أَنه كتب لأَهل جُرَش بالحمَى الذي حماه لهم للفَرَس والرَّاحِلَةِ والمُثِيرَةِ؛ أَراد بالمثيرة بقر الحَرْث لأَنها تُثيرُ الأَرض." وعلى الرغم من اهمية التعريف الوارد في لسان العرب فالأقرب إلى ما يريده الشبان هو تعريف الثورات الأوروبية كالثورة الفرنسية عام 1789 م أو الثورة البلشفية عام 1917 في موسكو وربما في تجارب اقرب عهدا كالثورة الأوكرانية أو الجيورجية التي توصف ب "الثورة" على سبيل المجاملة والتضخيم خصوصا إنها طلبت الانتقال من التبعية لروسيا إلى الاندماج في المشروع الأوروبي ولعل هذا الحلم هو ابرز انجازاتها. وبالعودة إلى الثورة الفرنسية نجد أن الثورات العربية لا تمت إليها بصلة قوية فهي انفجرت ضد الملكية وأرست نظاما جمهوريا ولم تتوج هذه الثورة بالديمقراطية إلا في وقت متأخر. وكان للثورة البلشفية خصوصيتها إذ أنها أطاحت بالنظام القيصري من اجل إقامة ديكتاتورية البروليتاريا وقد انهارت هذه الثورة عبر انتفاضة داخلية تحت شعار الغلاسنوست والبيروسترويكا. وهذا يعني أن المتظاهرين العرب يطلقون تعبير "ثورة" على حراكهم بالقياس الى خليط من التصورات الغامضة عن الثورات والحركات الثورية المعروفة في أوروبا والغرب. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى عنصرين ثوريين من موسكو وباريس غيرا وجه العالم الأول يتصل بفصل الكنيسة عن الدولة وهو إجراء صدر عن الثورة الفرنسية والثاني يتصل بتأميم وسائل الإنتاج وهو قرار اتخذته الثورة البلشفية وكان له صدى عالميا لأكثر من ثلاثة أرباع القرن وفي النظر إلى خطب الثورات العربية او الى القرارات المصرية والتونسية فإننا لا نلحظ شيئا من هذا القبيل وما نلحظه هو تغيير النظام القائم لصالح نظام نعرف أشياء عامة عن ملامحه من نوع: تداول السلطة دوريا والقضاء على الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وهي شعارات عامة نجهل كيف ومن يضمن تنفيذها واحترامها. ولعل هذا التصور الغامض والمختلط لمجموعة أشياء في الآن معا هو الذي يعيق في بعض الحالات التوصل إلى تسوية لانتقال السلطة من فريق حاكم طال به الحكم إلى فريق انتظر الحكم طويلا. يضاف إلى ذلك أن التغيير السريع الذي تم في مصر وتونس فتح شهية العرب الآخرين على تكرار المثال نفسه وبالتالي إهمال الوقائع القاهرة للبلدان المعنية كما هي الحال في ليبيا التي تشهد حربا أهلية طاحنة ينتصر فيها الحلف الأطلسي للمنتفضين على العقيد ألقذافي الذي يجمع العالم على تغييره لكنه يحتفظ في بلاده بنسبة مهمة من الناس المتلفين حوله والذين يريدون الموت من اجله وبالتالي من الصعب تجاوز هؤلاء الذين ينتمون غالبا إلى قبيلتي المقارحة وقذاف الدم ويحتفظون بتأييد أقسام من قبائل أخرى. وفي اليمن من الصعب إهمال التمثيل الواسع الذي يحظى به المؤتمر الشعبي العام في الشارع اليمني وبالتالي لا يمكن حل مشكلة انتقال السلطة دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح هذا التيار الذي حقق انجازات وطنية أساسية في تاريخ اليمن الحديث وفي سوريا تكبر المشكلة أكثر بسبب تداخل عوامل كثيرة إذا ما انفجرت قد تتحول معها الأمثلة اليمنية والليبية والبحرينية إلى ضرب من المزاح. خلاصة القول أن من حق المنتفضين العرب أن يطلقوا على أفعالهم وحركاتهم التسمية التي يريدون ولكن من حق بلدانهم عليهم أن يبرهنوا عن قدر كاف من المرونة والعقلانية التي تتيح انتقال السلطة دون حرث مصالح ووجود فئات واسعة من بني وطنهم أو الامتناع عن تقاسم السلطة أو التشارك فيها أو السماح بفرص مضمونة لتداولها وكلها مطالب لا تتنافى مع قيم المساواة الوطنية التي تجهر الثورات بالدفاع عنها قولا وفعلا. بكلام آخر نقول انه ربما يجدر ب"الثوريين" العرب إلا يأسروا حراكهم في تعابير ثورية لا تتناسب تماما مع واقع البلدان التي يطلبون تغيير أنظمتها فيهملون منطق المساومة والمصالحة الوطنية ويخاطرون بالحرب الأهلية عندما يتعذر سقوط النظام بالضربة القاضية كما حصل في مصر وتونس. نعم من حق المنتفضين أن يطلقوا على حراكهم الاسم الذي يروق لهم لكن من حق بلدانهم عليهم أيضا أن ينتبهوا في بعض الأمثلة إلى ضرورات المساومة والمصالحة والمشاركة وبالتالي تجنب السقوط في أتون الحروب الأهلية.