كلٌ من الحرية والطاغوت لا تتحقق تجلياتهما إلا في طار اجتماعي.. ذلك أن كلاً منهما يعبران عن خيارات. فلا قيمة للحرية او الطاغوت عندما يعيش الإنسان منفرداً وإنما قيمتهما تظهر في ظل إطار اجتماعي, اي عندما يعيش الانسان مع أناس آخرين. وبما أنه يستحيل على أي إنسان ان يعيش منفرداً. فآدم عليه السلام عاش في البداية مع إنسانة أخرى هي زوجته حوى, وما دام هناك شخصان على الأقل يعيشان معا فالعلاقة بينهما إما ان تقوم على الحرية أو تقوم على الطاغوت ولا شيء ثالث آخر يمكن ان تقوم عليه العلاقة بينهما. العلاقات التي تقوم على الحرية هي تلك العلاقة التي لا يتماهى احد الشخصين في الشخص الآخر. والعلاقات التي تقوم على الطاغوت هي التي تقوم على اساس التماهي. وبما انه مهما كان التشابه بين شخص وآخر كبير فإنه لا يمكن لهما التماهي اي التساوي في كل من التفكير والأحاسيس والتصرفات. إذن الحرية تقوم على اساس طبيعي اي اتاحة الفرص لأن يتم تحديد التشابه والاختلاف بين الناس وفقاً للواقع, أما الطاغوت فهو اعتباطي وتحكمي لأنه يفرض التشابه عندما لا يكون له اي اساس ويفرض الاختلاف عندما لا يكون له اي اساس. في ظل الحرية يحافظ الإنسان على إنسانيته اي على تشابهه واختلافه مع الآخرين, وعلى هذا الاساس فإنه يجب احترام الإنسان كإنسان بمعنى احترام ذاته, كما هي سواء رضي الآخرون بذلك أو لم يرضوا. أما الطاغوت فإنه يلغي الانسان كإنسان عندما يفرض عليه ما ينبغي عليه أن يكون. إذن الحرية لا تعني التنافر مع الآخرين في كل شيء لأنه في الواقع لا يوجد تنافر كامل وإنما يوجد تكامل بين الناس أجمعين. اما الطاغوت فإنه يفرض التنافر فرضاً. الحرية تعني التعامل مع الآخرين من خلال المعاملة بالمثل على الاقل او بالإحسان على الافضل. فالتعامل بالمثل يحتم اخذ تطلعات ورغبات الآخرين بعين الاعتبار. اما الاحسان فيعني ان يحب الانسان لأخيه ما يحبه لنفسه. ولا شك ان ذلك يضع قيودا على حرية الإنسان المطلقة (هواه) لأنه لو تصرف كل إنسان بحسب هواه لغابت الحرية من الجميع. وتتضح نتائج الحرية والطاغوت من خلال الاسرة التي تشكل اساس كل العلاقات والمنظمات الاجتماعية بمختلف تنوعاتها. وترمز العلاقات بين الولد والوالدين مرتكزات الاسرة. فما تم تكوين الاسرة (الزواج) الا بهدف الانجاب. وعندما يتم الانجاب تنقسم الاسرة إلى أولاد ووالدين. فالأولاد سيشكلون اسراً جديدة والوالدين سيرحلون عن الدنيا لإتاحة الفرص للأسر الجديدة ان تحل محلهم. إذن هناك علاقات تكاملية بين الطرفين وإن كانت تبدو تنافسية. فالوالدان يقومان بمجهودات كبيرة ويقدمان تضحيات كبيرة حتى قبل ان يرى الاولاد النور وبعد ان يروا ذلك حتى يصل الاولاد الى سن الرشد والتي قد تستغرق اكثر من ستة عشر سنة وحتى بعد ذلك السن. اما الأولاد فيمكن ان يقدموا الرعاية للوالدين عندما يبلغان سن الهرم. وهكذا نرى أن العلاقات بين الطرفين غير متكافئة. فما يقوم به الوالدان تجاه الاولاد متحقق وكبير وما يمكن ان يقوم به الاولاد تجاه الوالدين محتمل وضئيل. وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن تنظيم العلاقات بين الطرفين على اسس اقتصادية او سياسية نظراً لعدم توفر العوامل الضرورية لذلك وإنما فقط يمكن تنظيمها من خلال الإحسان اي من خلال العوامل الثقافية. الإحسان يعتمد على الحرية في حين ان الاقتصاد والسياسية يعتمدان وإلى حد كبير على الإكراه أي على الطاغوت. فالإنسان لا يمكن ان يكون محسناً الا اذا كان حراً لأنه يقدم أعمالاً نافعة للآخرين وبدون مقابل مباشر على الأقل. وفي حال الإكراه فإنه قد يتهرب من ذلك أو أنه قد يتبعه بالمن والأذى. ومن أجل ذلك فإن الله تعالى قد ربط تعامل الاولاد مع والديهم بالتعامل معه. ولا شك أن التعامل مع الله يقوم على الإحسان فالله يعطي بدون مقابل والإنسان يشكر الله لأن الله لا يحتاج الى عطائه. فكما ان الله قد احسن للإنسان الحر فإن من الاجدر به ان يحسن إلى غيره وأولى بذلك هما والداه اللذان يعتبران أقرب الناس اليه وأكثرهم إحساناً إليه. يقول الله تعالى في سورة الإسراء في إطار الايات التي نتدبرها معا “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنهَرهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَولاً كَرِيمًا”. لم يكتف الله تعالى بهذه التوصية لعباده وإنما اخذ على ذلك مواثيق من عباده. في سورة البقرة (آية:83): “وإذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون الا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاه وآتوا الزكاه ثم توليتم الا قليلاً منكم وأنتم معرضون”. وفي سورة النساء (آية:36): واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم, إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا”. و كذلك النساء (آية:135): “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم او الوالدين والاقربين إن يكن غنيا او فقيراً فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وإن تلووا او تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا”. الانعام (آية:151): “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون”. ومع كل ذلك فإن العديد من الناس ومن الحضارات قد عملت على الإخلال بهذه العلاقة من خلال تنظيمها من خلال الإكراه أي الطاغوت. ولا شك أن كل قد فشل. فالعلاقات بين الأولاد والوالدين يجب أن تنظم من خلال الاحسان ولا يمكن ان يتحقق ذلك إلا من خلال الحرية. فإذا ما حاول الوالدان فرض احترامهما على اولاد من خلال ممارسات وثقافة الطاغوت فإن ذلك لن يؤدي إلا الى أن يعاملهما اولادهما بالمثل ولكن عندما يكون الوالدان في حاجة وفي ضعف. ولا شك أن ممارسات الوالدين لذلك ستنتقل الى بقية مجالات الحياة الاخرى وعلى وجه الخصوص المجالات الاقتصادية والسياسية. فرجل الاعمال المستغل يتعلم ذلك في الاسرة التي عاش فيها وكذلك السياسي المستبد. إلى اللقاء في المقال القادم بإذن الله.