(إن من الشعر لحكمة) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما زخر به من حكم ومواعظ وأمثال وعبر .ويتفق الأولون على أن أكثر ما زخر به الشعر العربي من هذا اللون هو شعر زهير بن أبي سلمى ويُعدُّ من أصحاب ما اصطلح عليها البعض ب “المعلقات” ومطلعها: أمن أُّمِّ أوفى دِمْنَةٌ لم تُكلَّمِ بِحَوْمانَةِ الدَّراج فالمُتَثلّمِ وأُمُ أوفى هي زوج الشاعر التي طلَّقها ثم ندم، مثلما ندم الفرزدق حين طلَّق “نوار” ، فقال في ذلك: ندمتُ ندامةَ الكسّعيِّ لما غدت مني مطلَّقة نوار والدِمنة هي آثار الدار، و”الدرّاج” و”المتثلم”هما موضعان لقرية عامرة على طريق البصرة بالعراق. بعدها يعطف زهير على مدح “خارجة بن سنان” و”الحارث بن عوف” لمّا أخلصا الصلح بين عبس وذبيان فيقول: فَأَقْسَمْتُ بِالبيْتِ الذي طَافَ حَوْلَهُ رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وجُرْهُمِ يَمين لَنِعْمَ السَّيدَانِ وُجِدْتُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحيْلٍ وَمُبْرَمِ تَدَارَكْتُما عَبْساً وذُبْيَانَ بَعْدَما تَفَانَوْا وَدَقّوا بَيْنَهم عِطرَ مَنْشَمِ وَقَد قُلتُما إنْ نُدرِكِ السّلمَ واسِعاً بِمَالٍ وَمَعْرُوْفٍ مِنَ الأمرِ نَسْلَمِ فَأَصْبَحْتُمَا مِنْها على خَيرِ مَوْطِنٍ بَعيدَيْنِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ ومن ثمَّ يرسل حِكَمِه في معلقته هذه فيبدأها بنصيحة صدوق لقبيلتي “ عبس” و”ذبيان” فيقول: فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللَّهَ ما في صُدُورِكُمْ لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَرْ لِيَوْمِ الحِسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ ثم يجلي حكمته في الحرب وشؤمها وعواقبها، ويحذر العرب منها، فيقول: وَمَا الحَرْبُ إلاّ ما عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ متى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً، وَتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فَتَضْرَمِ فَتَعْركُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِها وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ ويتراسل في حكمه فيبدأها بحكمته في علم الغيب قائلاً : وأعْلَمُ مَا فِي اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ولكِنَّني عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي وَمَنْ هابَ أَسبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ، وَلَو رَامَ أَسْبَابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ ويذم البخل، ويحث على توطين النفس على الوفاء والاعتماد عليها، والذود عن العرض، ومداراة مع الناس ومجاملتهم إن تتطلب الأمر حتى لا يصاب بما يكره أو يُعْضُ بالقبيح من القول فيرسل ما تقدم حزمة من الحكم يقول فيها: وَمَنْ يُوفِ لا يُذْمَمُ وَمَنْ يُفْضِ قَلْبُه إلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَمِ وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ، فَيَبْخَلْ بِفَضلهِ على قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ وَمَنْ لا يَزَلْ يَسْتَرْحِلُ النّاسَ نَفْسَهُ، وَلاَ يُعْفِها يوماً من الذُّلّ يَنْدَمِ وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوّاً صَدِيْقَهُ وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفْسَه لا يُكَرَّمِ وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ يُهَدَّمْ وَمَنْ لاَ يَظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ وَمَنْ لَم يُصانِعْ في أُمُورٍ كَثيرَةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ ولنا عودة إلى حكم زهير بن أبي سلمى وجواهر من حكم الشعر العربي في عدد قادم بمشيئة الله تعالى.