روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : داحس والغبراء جرت حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان، ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان. وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء، أيهما يكون له السَّبْق، وكان داحس فحلاً لقيس بنُ زهير، والغبراء حِجْراً، لحَمَل بن بَدْر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية. وسبق داحس الغبراء وعندما دنا من الْفِتية، وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية. ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير: وما لاقيت من حَمل بن بَدْر ... وإخوته على ذاتِ الإصادِ هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر ... وردّوا دون غايته جَوادي ورغم ما جرى فقد بعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبق. فقال قيس: كلا، لأمطُلنك به، ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه، ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء. فقَبضها حُذيفة وسكن الناس. ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة، فأخبر حُذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس: فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ ... عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة(1) ... وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان فقالت بنو عَبس: مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة، ورُدّوا علينا مالَنا. فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً. فنشبت الحرب بينهم واستمرت 40سنة وتفاصيلها طويلة ليس هذا مكانها لكني أنقل هذا الموقف الإنساني الرائع لقيس بن زهير من حمَل بن بدر فقد كان بينهما صداقة متينة تحولت إلى عدواة مميتة وحرب طاحنة تشيب لها الولدان بسبب داحس والغبراء !! ورغم هذا فلم ينس قيس بن زهير سيد بني عبس الصداقة والعشرة التي كانت بينه وبين حمل بن بدر قبل داحس والغبراء ولم يفرح بمقتل صديقه القديم على يد قبيلته !! بل رثاه لما قتل وتحسر على ماجرى في ابيات حوت الكثير من الحكم الرائعة عن البغي وظلم ذوي القربى والإنتقام ثم الندم ومما قال : تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت ... على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم (2) ولولا ظُلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما طَلع النجوم ولكن الفَتى حملَ بن بَدر ... بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم أظن الحلْم دلّ عليّ قَومي ... وقد يُستضعف الرجُل الحليم ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني ... فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم وندم في قصيدة أخرى فقال : شفيت النفس من حمل بن بدر وسيفي من حذيفة قد شفاني شفيت بقتلهم لغليل صدري ولكني قطعت بهم بناني فلا كانت الغبراء ولا كان داحس ولاكان ذاك اليوم يوم دهاني . عند ما عشنا متنا. عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق، صاحب الرحبة، التغلبي البغدادي أحد أئمة المالكية، ومصنفيهم : كان بقية الناس، ولسان أصحاب القياس، وله شعر معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح، أقام ببغداد دهرا، وكان حاله ضيقا فقال : بغداد دار لاهل المال طيبة * وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها * كأنني مصحف في بيت زنديق ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وعلى حكم الأيام في محسني أهلها، فخلع أهلها، وودع ماءها وظلها ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، ، فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد: سلام على بغداد في كل موقف * وحق لها مني السلام مضاعف فو الله ما فارقتها عن ملالة * وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها * ولم تكن الارزاق فيها تساعف وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف وما إن أصبح في مصر من أهل الأموال الكثيرة حتى أتاه الموت من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب، ونفسه يتصعد ويتصوب: لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا . وإن ترفع الوضعاء وللعلامة عبدالوهاب التغلبي المالكي المذكور عاليا أبيات مختصرة تمر على الخاطر كلما لقي الإنسان سافل طالع نازل ولابس لبس فاخر!! وهي : متى يصل العطاش إلى ارتواءٍ ... إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وإن ترفع الوضعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا تركت لهم الدنيا والآخرة اجتمع أبو نصر احمد بن يوسف السليكي المنازي الكاتب بابي العلاء المعري بمعرة النعمان، فشكا أبو العلاء إليه حاله، وأنه منقطع عن الناس وهم يؤذنه، فقال: مالهم ولك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة فقال أبو العلاء: والآخرة أيضاً ! وجعل يكررها، ويتألم لذلك، وأطرق فلم يكلمه إلى أن قام !!.والمعري كان زنديقا لذلك قال له أبونصرهذا الكلام بداهة وبعفوية وحزن المعري من كلام أبي نصر الكاتب والأبيات التي قالها تائبا – سقناها في حلقة سابقة - يؤكدان أنه تراجع وترك الزندقة . رائعة المعري للمعري – نفسه - رائعة من غرر الشعر وروائعه قال فيها : وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنني بين السماكين نازل (3) ينافس يومي في أمسي تشرفاً ... وتحد أسحاري عليّ الأصائل وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل (4) فلو بان عضدي ما تأسف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل إذا وصف الطائي بالبخل مادر ... أو عير قساً بالفهاهة بأقل (5) وقال السها للشمس أنت خفية ... وقال الدجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل الهامش (1)الغَلْوَةُ قدرُ رَمْيةٍ بسَهْمٍ وقد تُسْتَعْمَل الغَلْوة في سِباقِ الخَيْل والغَلْوَةُ الغاية مقدار رَمْيةٍ (2) جَفْر الهَباءة إسم المكان الذي قبر فيه حمل بن بدر وما يريم أي لايبرح
(3) السماكين : كوكبان في السماء والكِنُّ كلُّ شيءٍ وَقَى شيئاً فهو كِنُّه وكِنانُه والفعل من ذلك كَنَنْتُ الشيء أَي جعلته في كِنٍّ وكَنَّ الشيءَ يَكُنُّه كَنّاً وكُنوناً وأَكَنَّه وكَنَّنَه ستره ( 4) الغَوائل : الدواهي (5) الفَهاهةُ : العِيُّ والطائي : هو حاتم الطائي يضرب به المثل في الكرم فيقال : أجود من حاتم ومادر : يضرب به المثل في البخل فيقال : أبخل من مادر وباقل : يضرب به المثل في العى خلاف البيان فيقال : أعيا من باقلٍ وقس : هو قس بن ساعدة الإيادي، يضرب به المثل في حسن البيان فيقال أبين من قس . أبو زيد بن عبد القوي [email protected]