زعم البعض أن دعوة أهل الله الصوفية دعوة إلى العزلة والسلبية والتواكل معتمدين على ممارسات وأقوال بعض الدخلاء المدعين للتصوف وما السلبية والتواكل إلا أمراض اجتماعية ألصقت بالمدعين كما التصقت بالكثير من الكسالى أما أهل الله الصوفية الراشدون فلا يعرفون السلبية ولا التواكل ولو تتبعنا آداب المريد بكتبهم وممارساتهم لوجدناهم جميعًا يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج ويؤكدون لهم أنه لا تتحقق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام، وفي سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلنا لا ننسى نصيبنا منها وأمرنا بالتأمل والتفكر فيها وجعل ذلك من سمات عباد الرحمن الذين يذكرون الله كثيرًا والله سبحانه وتعالى يضع دستور ذلك كله فيقول: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”(القصص: 77) وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان آدم عليه السلام حراثاً ونوح نجاراً وإدريس خياطا وإبراهيم ولوط مزراعين وصالح تاجرا وداود زراداً وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم وسلم رعاة. ومما يروى عن لقمان الحكيم انه قال لابنه: يابني استعن بالكسب الحلال فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه وضعف في عقله وذهاب مروءته وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به وقد كانت ألقاب أهل الله الصوفية تدل على ما يزاولونه من مهن وحرف وصناعات فمنهم الوراق و الخراز والبزاز والقصاب والحلاج والزجاجي والحُصري والصيرفي والمقرئ والفراء والسماك ... الخ ويقول الدكتور عامر النجار في كتابه التصوف النفسي صفحة 422 إن التصوف قدرة نفسية وطاقة هائلة لايقدر على تحملها إلا الأفذاذ فالصوفي الحق هو ذلك الإنسان الذي استطاع أن يقهر رغبات نفسه وشهواتها وتحرر من سلطان جسده وتدرج في مدارج الصوفية الروحية فانتقل من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام ليصل في النهاية إلى المعرفة اليقينية ومتى تحقق بهذه المعرفة فقد توصل إلى السعادة واليقين ولهذا لجأ إليهم الناس في أوقات الشدة فوجدوا عندهم التعاطف والمشاركة والعناية والأمن والسكينة وأهل الله دخلوا على الله من باب الذكر فأفادوا الدين والدنيا ونجحت تجاربهم إلى درجة اليقين القطعي عندهم ويقول محمد زكي الدين إبراهيم في كتابه “أصول الوصول” ج1 ص29”وكانت تجاربهم في هداية الناس أنجح ما عرف الناس وستظل كذلك بإذن الله” وقال الإمام الشافعي” صحبت الصوفية فاستفدت منهم كلمتين قولهم: “الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك” وقولهم: “نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل” وقال ابن عطاء الله السكندري في كتابه تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس ص 144 “ أهل التصوف هم أهل الفهم عن الله توكلوا عليه فكان بمعونته لهم فكفاهم ما أهمهم وصرف عنهم ما أغمهم واشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم علمًا منهم بأنه إلى غيره لا يكلهم ومن فضله لا يمنعهم” وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يكره المريد المتعطل ويحث على طرق باب الأسباب والعمل وكان يعمل في الزراعة على نطاق واسع فهو يتحدث في خطاب له لأحد أصدقائه عن سبب تأخيره في السفر فيقول “وسبب الإمساك عن السفر في العادة زرع لنا يدرس قد حرث لنا في ثلاثة مواضع” والمدرسة الشاذلية تفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط أما الشكر فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة وكان أبو الحسن الشاذلي يقول” الشكر صفة أهل الجنة والصبر ليس كذلك” وقد يحب العمل ويعمل بيديه في الزراعة ليصون نفسه من الاحتياج إلى الناس ضاربا لأتباعه المثل في وجوب الاعتماد على النفس فكانت له مزارع عديدة وكان يقتني الخيل ويتخيرها ويركبها كما كان خلفته أبو العباس المرسي يأمر أصحابه قائلا:عليكم بالسبب, وليجعل أحدكم مكوكه سبحته أو تحريك أصابعه في الخياطة سبحته والصفر. وعلى هذا النحو فقد كان الشاذلية أشد الناس حثا على العمل مع الاشتغال الطريق. وفي هذا الصدد يقول أبو العباس: نحن إذا صحبنا تاجرا ما نقول له اترك تجارتك وتعال أو صاحب صنعة ما نقول له أترك صنعتك وتعال أو طالب علم ما نقول له اترك طلبك وتعال ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله تعالى فيه وما قسم له على أيدينا وهو واصل إليه. ومن ناحية أخرى لا يتعارض حب العمل عند الشاذلية مع نظريتهم في إسقاط التدبير؛ إذ إن إسقاط التدبير عندهم يهدف إلى غاية نفسية خلقية ولا يتعداها إلى العمل والسعي من أجل الرزق وعمارة الكون وهو ما فرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان, بل إن المسقط للتدبير مع الله يؤدي عمله وهو مطمئن هادئ النفس بعيدا عن القلق النفسي الذي يتعرض له غيره من الناس فالمقصود بالترك عند أهل الله ليس معناه الانقطاع عن أعمالهم ويتركون أسبابهم ويهيمون في الكهوف والمغارات، ولكن يعرف الإنسان ربه ويوجه قلبه إليه ويشهد الفعل منه خلقا وإيجادا ثم يسعى في حوائجه ولا يقصر فيها فتكون الأسباب عنده كأبواب الله يقف عليها يلتمس العطاء ويبين ابن عطاء أنه من الضروري للإنسان أن يتخذ له عملا للأسباب كثيرة، منها أن وجود السبب لا ينافي التوكل على أمر الله في أمر الرزق، بل هو من باب الإجمال في الطلب و صيانة الوجوه عن الابتذال بالسؤال وحفظ بهجة الايمان أن تزول بالطلب من الخلق فما يعطيك الله من الأسباب لا منة فيه لمخلوق عليك والاشتغال بالأسباب يشغل الإنسان عن ارتكاب المعاصي وإن المجتمع لن يستقيم بدون من يقومون بالأسباب لتلبية حاجته وهم أهل الله، أهل الإحسان.