اليمنيون اليوم, على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم متفقون على واحدية وطنهم أرضاً وإنساناً, متفقون على حبّ وطنهم, فحبّ الوطن من الإيمان, كما قرر ذلك السلف والخلف وجرت به الركبان.. وإن رأينا أصواتاً نشازاً تخرج عن المألوف, وتغرد بعيداً عن السرب, فهي لن تؤثر بالحناجر التي انفجرت حين غفلة من تنظير المنظرّين, ممن أعلنوا موت الوطن بموت أبنائه, فكان الإعلان القوي بعدم التفريط بالوطن, وتاريخه الحافل بالحضارة والبناء, وأن الحياة مازالت تضخ دماءً جديدة, بها تتجدد الشعوب وتصنع مجدها.. كلنا أمل بأن نستعيد يمنيتنا, نصرخ بكل كياننا للعالم بأن هناك روحاً تسري لتعيد ألقاً ومجداً وحياة.. لذا نحن في مرحلة فارقة ونقطة مفصلية, تحدد طريق سيرنا القادم للبناء والتطور الخلاق, وهي الطريق التي عبُدت بنضالات وتضحيات, وبثورة نقية, ستظل ترسم لنا الخطوط العريضة لنشدان الدولة المدنية, التي سيحيا في كنفها الجميع بمواطنة متساوية, لا فرق فيها بين جنوبي وشمالي, وبين عرق مقدس وآخر لا قداسة له ولا كرامة.. الدولة المدنية التي سيعمل على تشكيل لبناتها كل الشرائح بحوار بناء وهادف, لا يجعل نصب عينيه إلا الوطن, والوطن وحده.. نرجو أن يتم بسرعة أي الحوار ليقطع الطريق أمام المشككين وأصحاب المشاريع التجزيئية والصغيرة.. وهو الحوار الذي يتكئ على ثقافة المواطنة والمصالح المشتركة, لا يتكئ على قوة السلاح والصوت العالي والثقافات المناطقية والقبلية.. اليمني بتركيبه الفسيولوجي تواق للحرية, تواق للبناء والنهوض.. ينشد السعادة منذ القدم, فهي البلاد السعيدة, وإن جاءت مرات على حساب الوطن, كما هو حال الفارين من تهدم السدّ قديماً.. وهو اليوم حال الفارين من استحقاقات وطن لا بد أن يقفوا عندها مليئاً ليغلبوا لذة البناء وتعمير الأرض والإصلاح, على شهوات الهدم والتطاحن والتعارك, فديدن اليمنيين البناء وسياسة الأرض وتعميرها, أنى وجدوا هناك في شمال الجزيرة أو في الشام, أو في بلاد الأندلس, وجنوب شرق آسيا, فهم شركاء أساسيون في عمارة الأرض, وإقامة أركانها الحضارية.. ألا يجدر بنا التفكير ولو قليلاً بكل ذلك, ليكن لنا قدم صدق عند أهلينا اليوم, ويُكتب لنا سفرٌ جديدٌ في ذاكرة التاريخ, فتاريخ اليمن يضجّ بالحضارة, وقاموسه يعجّ بمصطلحات البناء والتمدن.. كل شيء هنا, يدل أن للإيمان والحكمة بذرة أزلية, تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. بلدة طيبة, تنصهر وتتلاقح فيها الثقافات وتسمو في سمائها الأفكار.. الإنسان هنا بمنجله الأول يبني المثل والقيم, وينشد التغيير ويسعى إليه.. اليمنيون يتقنون الكثير من الفنون, أولها فن الحياة, وثانيها فن الحرية.. وأبلغ من ذلك التوطن والتمدن الذي آثاره ظاهرة في جسد الوطن, وأخرى غدت تقليداً للأمم, كالتصافح عنوان التعايش, الفن الذي يعشقه اليمنيون ويمارسونه في طقوس من الحبّ والعبادة.. إنها أخلاق العظماء, يسحرون الآخر, يبهرونه بفكرهم السامق التواق للحق والخير والجمال.. لا مكان للكره والحقد في أرض تجسد فيها الحبُّ, وتموسقت فيها قيم الأرض والسماء.. بالأمس ازدانت هذه الأرض بأبنائها العظام وبأفكارهم المختلفة, التي اتسعت للجميع, لم تضجّ بأحد ولا بفكره.. واليوم تخضر الأرض وتبسم من جديد, ترقب ميلاد يمن جديد, يمن سعيد, تشكل من رحم الثورة.. الكل يشارك في بنائه وتعميره, الكل حدّث نفسه وأمرها بالتغيير.. الكل اعترف بأخطائه, وقرّ في ذهنه أن التغيير سنة كونية, وأن التغيير من الناس, والتيسير من الله عزّ وجل.. لا أحد يلتفت للوراء أو ينظر ببلاهة و يقف عاجزاً أمام من يصنع له العقبات ويحدث الاصطدامات هنا وهناك, بل لا بد من المقاومة والإصرار لتحقيق ما ننشده ونصبو إليه.. ربما عشنا زمناً طويلاً, اليأس تلبسنا, والظلام لفّ مدننا وقرانا, بعد أن عشعش الجهل , واستقر في أذهان الكثير ألا أمل في النهوض والبناء!.. لكن بعد أن علت صيحات الغيورين تعانق الفضاء صادحة بالتغيير, كاسرة قيوداً صدئة, كبلت عقولنا وأجسادنا عقوداً, فرينا الجموع سيلاً عارماً يحرف الفساد ويجتث جذوره.. فكان الأمل بأن نستعيد يمنيتنا وحضارتنا وكينونتنا, سلامنا وتعايشنا, نستعيد حضارة شهدت لها السماء, خلدها التاريخ ووثقتها الحجارة والأضرحة بخطوط مسمارية, ستظل محفورة في ذاكرتنا الجمعية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..