لو لم يكن من ثورة الشباب إلا أنها أزالت فعل المراوغة والمخاتلة من خطاب الطلائع السياسية والثقافية لكفاها ذلك، ولكن كيف حدث هذا ؟ والمقصود قبل ذلك بفعل المراوغة والمخاتلة الذي طبع خطاب النخبة التي تسلمت المشهد السياسي والثقافي منذ ما بعد ثورة سبتمبر وحتى اليوم ؟! في هذا الصدد سأقول : إن ثورة سبتمبر وما بعدها من مراحل سياسية حتى عام 2011م، لم تحظ بتقييم موضوعي يقوده المثقفون والسياسيون من أجل إعادة النظر في تجاربهم ومراجعة حساباتهم والاعتراف بالأخطاء وجوانب الاخفاق التي صنعوها بأيديهم قبل أن يصنعها غيرهم في سبيل إضعافهم وهلهلة مشروعهم الثوري الرامي إلى تكوين دولة حديثة. لقد ظلت الطلائع السياسية والثقافية بضعة عقود تقدم للجماهير خطاباً مرونقاً ومنمقاً، ليس فيه إلا الجهد النضالي المستميت والملائكية الثورية التي لم يكن لها واقع متحقق، وكل هذا جرى على حساب وضع الحقيقة العارية أمام جيل ما قبل الوحدة وما بعدها لكي يتعرف هذا الجيل على جوانب الاخفاق والقصور في الفعل الثوري الأول فيعي الدروس والتجارب، ويتعامل مع الطليعة الثورية السياسية والثقافية على أساس من المصداقية والوضوح. لقد كانت هذه المصداقية تقتضي أن تقول الطليعة الثورية إنها انقادت إلى ما كان سبباً في إفراغ الفعل الثوري من مدلوله الحقيقي، وأن لحظات من الضعف والانقسام كانت تعتريهم، بفعل الأنانيات والتمترس وراء الذات وعدم النبوغ والحدس في إدارة العلاقة مع الآخر، وهذا تسبب في تفلت المشروع الثوري من أيديهم يوماً بعد آخر، حتى وصلنا إلى حالة من اليأس والشعور بالخيبة، وكأن الوطن اليمني قد كتب عليه أن يظل هكذا.. ثورة ولكن بلا لون ولا طعم ولا رائحة !! لقد كان هناك جهد ثوري غير عادي، ولكن كان هناك أيضاً حالة من العمى والتخبط في قيادة المشهد الثوري حتى اليوم، وإلى ذلك فقد كان هناك وهن يصيب حملة الثورة وورثتها في الموقف من المعسكر الإمامي والشدة في مواجهته عبر النقلات التي كانت تتطلب الثورة وجودها في التعليم والمؤسسات الخدمية ووضع الاستراتيجيات التي تضمن تمدين القبيلة، ولكن للأسف فقد استمرت عقليات ما بعد الثورة تتعاطى الفكر نفسه وتنهل من معين الثقافة نفسها، وتقوقعت الحكومات، وتعالت كثير من النخب وركنت إلى الأقوال وتركت الأفعال، وظل خطابها يتشبث بذكريات الكفاح المسلح وخطط تفجير الثورة، متناسية المهمة الأساسية التي كان ينبغي أن تقوم بها من أجل تدشين حقيقي للعهد الثوري الجديد. على أن حالة اليأس كانت تبلغ أوجها عندما كانت الأعياد الوطنية تزورنا كل عام، ومعها تنهمك قوى الثورة في ترديد خطاب متكلس، لا يغادر رحلة الانفعال والتعبير عن الابتهاج، وكان الخطاب الإعلامي يقف في مقدمة المروجين لهذا الخطاب المكرور منذ خمسين عاماً.. خطاب سطحي وغير منتج للفاعلية الحضارية، لأنه يقف أمام نصف قرن وقفة تأمل ونقد ومحاكمة للذات الثائرة ومساءلتها عما حققت وما أنجزت من أهدافها التي ثارت من أجلها.. وهكذا ظل الإعلام رسول الفشل والعمى الثوري والافراز السلبي الذي جعل الثورة تأكل نفسها، ويزداد حزني كلما تذكرت أعياد الثورة وتذكرت معها تلك الأعداد الصحفية الخاصة التي كانت تنفق من أجلها الأموال وتهدر في سبيلها الأوراق ولم يكن فيها غير شريط الذكريات وطوباوية المثقف الثائر أو السياسي الثائر..! ولكننا اليوم نعود إلى تأكيد أن ثمة تباشير تلوح في الأفق لخروج خطاب الثورة من هذا العمى السائد والمتجذر منذ خمسين عاماً.. وقد أتضح أن مغادرة هذا العمى بدأت اليوم مع مجيء الربيع العربي ودخول اليمن في هذا المناخ الجديد ثورة شبابية شعبية وليست نخبوية نجحت قبل كل شيء في كسر حاجز الخوف لدى الجماهير فتفاعلت النخبة الثقافية والسياسية وانضمت إليها، وكان أن بدأت هذه النخبة في تقديم خطاب مغاير لقراءة الماضي، أجد فيه نوعاً من الصراحة في تقييم التجربة الثورية السبتمبرية وتوجيه النقد إلى الذات والاعتراف بالأخطاء وهذا شيء جميل، ولكن أحسب أن هذا التحول جاء متأخراً، وسيواجه صعوبة بالغة في تحويله من وجوده القولي إلى وجوده الفعلي الذي يباشر في اتخاذ الخطوات لتصحيح المسار الثوري، أما لماذا هذه الصعوبة ؟!! فإن هذا سيتم تناول في مقالة قادمة إن شاء الله.