من بين 14 حزبا وتنظيما سياسيا تحت التأسيس، ظهر على الساحة السياسية مؤخرا ما يستدعي الانتباه حزبان هما على طرفي النقيض في خطهما الفكري العام وتوجهاتهما السياسية: حزب الرشاد السلفي، والحزب الليبرالي. الرشاد السلفي أعلن مؤتمره التأسيسي الأسبوع الماضي، فيما الحزب الليبرالي الذي أعلن عن وجوده منذ أكثر من شهرين، لما يعقد مؤتمره الأول بعد.. وكلاهما يختصران التيارات السياسية للأحزاب والتنظيمات في توجهاتها الفكرية التي لا تخرج عن اتجاهين رئيسيين، سلفي وليبرالي، بمعناهما العام، ويندرج تحتهما طيف واسع من الأحزاب ذات النزعة الدينية كالإصلاح والحق والقوى الشعبية ومؤخرا حزب الرشاد السلفي كأبرز ممثلي الاتجاه السلفي.. على حين يعد الاشتراكي والناصري والبعث ، وأخيرا الحزب الليبرالي، أهم ممثلي التيار الآخر الليبرالي. ورغم ان السلفية والليبرالية في المنطقة العربية، تشتركان في كونهما انبعثتا في ذات الفترة الزمنية التالية لمشروع النهضة العربية منذ أكثر من قرن ونصف، الا أنهما تختلفان في الخطاب الفكري، إذ تحاول الأولى استلهام المجد الغابر للدولة العربية الإسلامية، بخلاف الليبرالية التي تتجه غربا في محاولة لتمثّل النزعة التحررية الأوروبية بعد عصر النهضة. السلفية هي امتداد طبيعي لحركة بدأها جمال الدين الأفغاني في العصر الحديث ، الا انها تدين في خطها العام لتراث أكثر عمقا في التاريخ يمتد الى موروث ابن تيمية، و يتعداه الى فترة سحيقة لا تقتصر على جماعة أهل الحديث الذين يغلبون سلطة النص على ما عداها، بل تندرج في إطارها أيضا أصحاب النزعة العقلية في الإسلام كالمعتزلة وإخوان الصفا.. فالسلفية المعاصرة باختلاف تياراتها، هي سليلة مجمل التيارات والاتجاهات الفكرية في الاسلام.. فيما الليبرالية العربية ومنها اليمنية قطعا تدين بمذاقها الحداثي للحركة الليبرالية الأوروبية في القرن السابع عشر وعصر التنوير، حيث شهدت صعود الطبقة الوسطي، وتحررها من سلطة الإقطاع والملوك المستبدين .. السلفية والليبرالية، ظلتا على طرفي النقيض، كلاهما يرفض الآخر، ليجسدا معا أزمة الخطاب النهضوي العربي وثنائياته الشهيرة: الأصالة أم المعاصرة، التراث، أم التحديث، الوحدة الإسلامية، أم القومية العربية..ومرد الأمر، تمسكهما بقوالب فكرية جامدة، دونما محاولة لامتلاك رؤية سياسية واقعية، تنطلق من الواقع المعاش، بغية الوصول الى حلول ناجعة لمشكلاته وتجاوز عقباته. عوضا عن ذلك، انطلقتا، من نظرة جامدة، إما الى ماض تليد يزداد قدما يوما عن آخر ما يصعب استدعاؤه مرة أخرى، او الى مشروع غربي مستقبلي تزداد الهوة بيننا وبينه يوما عن آخر، ما يجعل اللحاق به مستحيلا أيضا.. وبدلا عن تحليل الواقع وتشخيصه للانطلاق منه، جرت محاولة القفز عليه، وتجاوزه الى هذين المشروعين المنفصلين عن واقعنا المعاصر. ما أجل قيام مشروع النهضة العربية حتى اللحظة الراهنة. التطورات المتسارعة، ربما نبهت الى مكامن الخلل .. وفي اليمن شهدنا تماهيا وتداخلا بين كلا الاتجاهين، فأصبح لكثير من السلفيين نزعة ليبرالية تحررية، تنفتح على الآخر وتعمل بمقتضيات الواقع، تماشيا مع العصر، وعدم محاولة إغفاله .. ويمكن اعتبار الإصلاح في كثير من كوادره ابرز ممثلي هذا التيار.. مثلما يمكن اعتبار الاشتراكي، ابرز ممثلي التيار الآخر، في ارتداده الحميد الى الأصول والتراث الحي للأمة العربية الإسلامية، الى جانب نزعته الحداثية المتفردة.. وإن كان الاتجاه القومي بشقيه الناصري سبقهما معا في محاولة المزج بين الاتجاهين، الإسلامي العربي والحداثي. مع ذلك فالمشكلة ستظل حاضرة، لتلقي بظلالها الكثيف على الحياة السياسية، وربما كان مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة، محك اختبار لكلا الاتجاهين، إذ إن الموقف منها سيرسم آفاق العلاقة بين الاتجاهين في اليمن، سلبا او ايجابا.. ففي حين أن تيارات سلفية لا تنفك تعلن وقوفها الى جانب دعاة الدولة المدنية، تشاركها في ذلك نخب قبلية تقليدية، لازالت تيارات سلفية أخرى تنظر بعين الريبة الى هكذا مشروعاً ، باعتباره مشروعاً غربياً، لتطرح مشروع الدولة الإسلامية عوضاً عنه.. وكأنما هناك تمايز وتناقض بين الإسلام والمدنية.. الحال.. من الصعوبة التكهن بمستقبل العلاقة بينهما، غير أن ما يمكن قوله : ان الصراع سيكون أكثر خفوتا، فيما لو امتلكا رؤية سياسية واقعية ناضجة، لعلاقة السلطة بالمواطن، وظائف الدولة، المشكلة الاقتصادية ، وما ينتج ونتج عنها من اختلالات اجتماعية.. في المقابل سيصبح الصراع على أشده كلما غابت تلك الرؤية، لحساب خطاب فكري ايديولوجي متعصب..أما عن حظهما من الشعبية والامتداد.. يمكن التأكيد أن التيارات السلفية هي الأوفر شعبية في بلد كاليمن، أقله في المستقبل المنظور، حيث المكونات الاجتماعية أكثر التصاقا بالدين والموروث التقليدي، فيما الأحزاب الليبرالية سيظل تأثيرها محدودا كونها أحزاباً نخبوية، تقتصر عضويتها على الطبقات المثقفة من المجتمع..